المدى رحب..
والشمس تنظر بعين الدفء إليّ، وأنا أيمم وجهي غربا، بعد أن تركت الطريق الصحراوي، وراء ظهري، ثم تجاوزت محي، لأصل حضن قرية أم حماط.
ها أنا هناك، بحميمية، ومحبة، أدخل القرية، وأنا أتوق إلى تدوين بوحها الصادق، الصريح، الحقيقي، نقيا، شفيفا، يخرج من عمق روح القرية، بكل تجليات الذاكرة الطيبة، والتاريخ المبذور قمحا على رباها.
أطرق باب أم حماط..
أتجول بها قليلا، وأعاين دروبها، وبيوتها، وآثارها، ومساجدها، ووجوه الناس فيها، قبل أن أرتاح في مضافة الحاج تحسين أحمد سالم الطراونة (أبو خليل)، الذي استقبلني بالـ'يا هلا» التي أسمعها في كل قرية أمر عليها، وكأنها مفتاح القلوب، والكلمة السحرية لدفء التواصل مع الطيبين هناك.
شربت القهوة العربية، وبعدها أحضر الشاي بالنعناع، حيث كان أول لقاء معه، ودون تنسيق مسبق، لكنه بابتسامته النقية، رحب بفكرة البوح، واستعادة ما يتيسر من حديث حول أم حماط، فكان أن بدأ يتكلم بهدوء، وحرص على صدق المعلومة التي يبثها لي حول سيرة المكان والإنسان في أم حماط.
وهنا، وقبل أن أكمل تدوين جوانب مختلفة من بوح أم حماط، لا بد وأن أشير إلى أنه في مرة أخرى، ألتقيت بالزميل الروائي أحمد فراس الطراونة، حيث أضاف معلومات قيمة، ومتنوعة، تحمس في أن يقدمها حول قرية أم حماط، ماضيا، وحاضرا، فكان ما زودني به من معلومات، وما تحدثت به مع الحاج تحسين الطراونة، هما المادة التي بدأت بها تدوين بوحي عن أم حماط، إضافة إلى ملاحظات أخرى جمعتها من كتب وأبحاث وملاحظات التقطتها لأجمعها في هذه المساحة بعد أن كانت متناثرة فيها أكثر من مصدر، متخصص في أخبار وسير الأمكنة، وبعد كل هذا خلصت في النهاية?إلى كتابة «بوح أم حماط».
الجغرافية
بدأ الحاج «أبو خليل» حديثه عن قرية أم حماط، بأن أعطى تقديما جغرافيا، مكانيا، للقرية، حيث ابتدأ بالإشارة إلى أن حدودها هي على النحو التالي: (من الغرب: الخالدية. ومن الشرق: محي. ومن الشمال نخل. ومن الجنوب: ذات رأس).
وهنا، أعود بالتزامن مع حديث «أبو خليل» إلى ما زودني به الزميل أحمد الطراونة، في ذات السياق، حيث كان مدخله للقرية من موقعها الجغرافي، وأهميتها الدفاعية في مرحلة من مراحل تاريخها، حيث يقول: «كانت أم حماط كغيرها من القرى التي تقع على حافة الصحراء، (واقصد أم حماط هنا المنطقة التي تمتد بأراضيها من محي جنوبا وحتى الثنية شمالا تقريبا، او المنطقة الموازية لفج الثنية و العسيكر وعباطة من الغرب)، كانت هذه المنطقة برج المراقبة الاول، او القلعة الاولى في مواجهة غزوات البدو قبل مئة سنة او يزيد، وكان اهلها اكثر حذرا من غ?رهم في العمل بالزراعة او الاستقرار لان البدو كانوا مستمرين في غزواتهم في تلك الفترة الزمنية، الا انه فيما بعد اتحدت العشائر وتكونت الأحلاف التي ردعت هذه الغزوات واوقفتها، او احدثت توازنا ما في القوى التي تصارعت على رمال تلك الصحراء، كتحالف عشائر الشراقا، او تحالف عشائر الغرابا».
تداعيات الاسم
«أم حماط.. أول كان فيها حماط بري، يعني تين بري، ومنشان هيك سموها بهذا الاسم»، هذا بوح كبار أهل القرية حول التسمية القديمة، والحديثة لأم حماط، إلا أن الدكتور سلطان المعاني، في كتابه «أسماء المواقع الجغرافية في محافظة الكرك/دراسة اشتقاقية ودلالية»، يضع الاسم ضمن الأسماء العربية للقرى، أي أنه لم يتم نحته من لغة قديمة أخرى، ويفسر الاسم بقوله عن أم حماط، بأن «الحماط بفتح الحاء من ثمر اليمن، معروف عندهم، يؤكل وهو يشبه التين، وقال عنه ابن سيدة: الحماط شجرة التين الجبلي، وقالوا انه شجر من نبات الشراه (اللسان، مادة?حمط)، ويضيف الزبيدي إلى أنه شجر شبيه بالتين، خشبه وجناه وريحه، إلا أن جناه أصفر، وأشد حمرة من التين، ومنابته في أجواف الجبال (تاج العروس، مادة: حمط)».
وعن القرية والاسم يشير الباحث نايف النوايسه في كتابه (السجل المصور للواجهات المعمارية التراثية في الأردن/ الكرك)، الى أن أم حماط «هي على الطريق الممتد الى محي ثم الطريق الصحراوي وبجوار خربة نخل الأثرية، وسميت بهذا الاسم لوجود شجر التين فيها، أو شجر يشبه التين. وفيها آثار قديمة كدار لسك النقود، وتسكنها عشيرة عيال جبران».
لكن ركاد نصير في كتابه (المعاني اللغوية لأسماء المدن والقرى وأحواضها في المملكة الأردنية الهاشمية)، يضيف حول معنى تسمية أم حماط، بأن «الحماط: شجر يشبه التين إلا أن جناه أصغر، وأشد حمرة من التين، وهو شجر عظام، أو هو التين، أو الأسود الصغير منه، أو الجميز، وتألف الحيات الحماطة. ويقال ليبيس الأفاني حماط، وحماط: نبات كالصليان، إلا أنه خشن المسّ، والحماطة: تبن الذرة، ورد اسم حمطة في العهد القديم».
أحواض القرية
أسير في دروب القرية..
أتعرف على معالمها، وأنا أريد أن أتتبع جغرافية المكان، قبل أن أدون ذاكرة بعض التفاصيل التاريخية التي ما زالت بعض آثارها قائمة حتى الآن.
كنت مررت على كل المعالم فيها، قبل أن أجلس مع الطيبين من أهلها، وأدون ما يحفظونه من تاريخها.
وهنا أشير الى أن أم حماط تتكون من عدة أحياء تنقسم إليها القرية، مثل كل قرانا على مساحة الوطن، وفي هذا السياق يذكر الحاج تحسين الطراونة، أنه من أحياءها، وأحواضها، كل من حي المساجد/ المعارف، حي المدارس، وحوض القصر، وحوض النعيمة، وحوض الشيخ، والمسمر الشمالي، والمسمر الجنوبي، وحوض نخل.
وأعود في هذا المقام من المقال الى كتاب الباحث ركاد نصير، حيث أنه قام برصد أسماء أحواض معظم القرى في الأردن، ومنها قرية أم حماط، مشيرا فيها الى أن أحواضها عشرة، هي (حوض النغّار: من الجروح: الذي يسيل منه الدم، والنغر عين الماء المالح. حوض الشيخ: شجرة يقال لها شجرة الشيوخ، وقيل هي شجرة العصفر؛ الطاعن في السن. حوض جرعب: الجرعب: الجافي الغليظ. حوض أبو شرش: الشرش: الجذر من النبات والعِرق الذي يتوزع فيه الدم في جسد الحيوان، (عاميّ)، وهو في الآرامية أصل كل شىء. حوض الغولة: الغُول: كل ما يتلون من الإنس والجن، والغَ?ْل: ما انهبط من الأرض، أو التراب الكثير، أو جماعة الطلح لا يشاركه شىء، وأغوال الأرض: أطرافها. حوض أم شعبتين: الشعبة: صدع في الجبل، أو مسيل الماء، أو ما عظم من سواقي الأودية. حوض بير العمارة: العمارة: الحي العظيم، أو القبيلة. حوض العموم: عبارة عن الإحاطة بالأفراد دفعة، الشمول، أو ما اجتمع وكثر. حوض العبد: الزنجي، والعبد: نبات طيب الرائحة. حوض القصر: ما شيّد من المنازل وعلا».
دار سك النقود
أتابع مسيري في أم حماط، وأقف أمام القصر فيها، حيث هو بقايا آثار بناء قديم، يعود الى الفترات البيزنطية والنبطية والرومانية، وهو معلم بارز في القرية ويتبع الى دائرة الآثار، وهو كغيره من آثار المنطقة لم يخضع للتنقيب ليتم تأكيد هويته التاريخية بدقة، وتشير المصادر التاريخية التي تتعرض للقرية انه يوجد في آثار القصر، أو قريبا منه، كان هناك دار لسك النقود.
كما يشير أهل القرية الى وجود آثار كنيسة قديمة في أم حماط تعود للعهود الرومانية القديمة، لكنه لم يتم الكشف عنها بشكل جيد.
رسالة التين
نتصفح كتاب المكان..
نقرأ ما تبوح به القرى، ونزيد بأن نتجاوز سطح التراب، لنغوص في عمق التاريخ والجغرافية، في سبيل استنطاق كل مرحلة ومساحة من الذاكرة المختزنة كنزا هناك..
ندقق النظر في التفاصيل، والمعالم، وذاكرة الناس، حيث أنه في قرية «أم حماط» هناك أحاديث كثيرة، وسواليف، ومخطوطات، ونقوش تريد أن تفصح عن واقع حالها، وعن تداعيات تاريخها، ولذا فكلما تعمقنا أكثر، كان القول أصوب، وأدق، حاملا رسالة التين، والناس، والآثار، والتاريخ، والرياح التي تختلط فيها قيم الصحراء، مع ثقافة الريف، ليكون منتجا اجتماعيا فريدا تعبر عنه «أم حماط».
السرعة والرشاقة
أعود لأضيف في هذه المساحة ما تيسر من معلومات استقيتها من كتاب «المشترك السامي في أسماء ومعاني المدن والقرى الأردنية» للباحث محمود سالم رحال، وفيه بعض إضافة على ما كنا دوناه من معاني تسمية «أم حماط» حيث يشير الى معاني اسم القرية بالسطور التالية «أم حماط: وبالسامي المشترك بمعنى مكان ذو عظايا، وبالعربية مكان ذو شجر تين. تقع في محافظة الكرك. ويأتي معناها كذلك بالسامية القديمة من حُمط؛ سحلية، سقاية، عظاءة (دويبة ملساء من الحرذون تمشي مشيا سريعا ثم تقف وتعرف بالسقاية عن العامة). والحرذون والورل والوزغة والعظاية ?الحرباء). وبالآرامية بمعنى حرباء. والجذر السامي المشترك (حمط) يفيد السرعة والرشاقة. وربما بمعنى مكان منخفض، ويفيد الانخفاض. الغور. وبالعربية حماط جمع حماطية/ شجرة شبيهة بالتينة».
البلد القديم
وبعد.. نستكمل تلك الملاحظات التي دوناها حول أم حماط مع الحاج تحسين أحمد سالم الطراونة (أبو خليل)، والزميل الروائي أحمد فراس الطراونة الذي أعطى بحثا موجزا حول ام حماط الانسان والمكان، كما زودنا بمقتطفات من مذكرات الشيخ حسين باشا الطراونه، ويضاف الى كل هذا بوح الطيبين من أهل القرية، وملاحظاتهم، وتلك الاشارات التي ينطق بها المكان، والمجتمع الذي يبث الحياة في أم حماط.
يقول الحاج أبو خليل: «أول ما سكن الناس كان في البلد القديم. أما القصر اللي بالقرية فهو ترى أثر روماني، ومبني من زمان قديم بالقرية. وكانت ام حماط في البداية، بالأصل حوالي خمس بيوت شعر، وكانت بيوت الحجر القديمة فيها مقسمة على هالناس، وكل عيله الها دار هناك، يعني مثل باقي القرى، للناس، وللخزين.. وأهل القرية يعتمدوا علازراعة وعلى تريبة الحلال، وبعدين صاروا يدخلوا بالوظايف وبالجيش، والحمد لله».
المدرسة والمسجد
وتبدأ حكاية القرية.. كل شىء يتم بناؤه، وتطويره، ولعل هنا، وقبل أن ندخل في تفاصيل استقرار الناس، وترحالهم قبل ذلك، الى أن يستقر بهم المقام في هذا المكان، من المهم أن نتتبع كيف تأسست بعض المعالم المهمة في ام حماط، وكيف ساهم كل أهل القرية فيها، مثل مدرسة ام حماط التي يشير تاريخ القرية الذي يتوارده أهل أم حماط في حديثهم عن نشوء المؤسسات في قريتهم حيث أنه «في عام 1969 اجتمع وجهاء القرية وقاموا بمطالبة الجهات الرسمية انذاك ببناء مدرسة لابناهم خاصة وانهم كانوا يرحلون للدراسة في قرى اخرى وهذا يعد معانة كبيرة، تمت ?لموافقة على ذلك وشرع اهل القرية ببناء المدرسة وساعدوا بكل جهودهم البدنية والمادية في بناء هذه المدرسة، لتكون نواة تعليمية وتخرج فيما بعد رجالات دولة ومهندسين ومحامين وقضاة اسهموا في بناء الاردن الحديث». أم المسجد القديم في أم حماط، وكيف تمت عمارته أول مرة، ثم البناء الثاني له في مرحلة أخرى من تاريخ القرية، حيث يقول أهل القرية في هذا السياق بأنه » في عام 1948 بني اول مسجد من الحجارة في القرية حيث اجتمع الاهالي وقاموا بنقل الحجارة من الخراب المجاورة وتم بناء هذا المسجد ليكون مسجدا للقرية، ومكان للعبادة الى ا? تم بناء مسجد جديد في بداية السبعينات من القرن الماضي، ولايزال اثر المسجد الاول ظاهر للعيان، ويوجد في القرية الان خمسة مساجد، للصلاة اما صلاة الجمعة فتقام في مسجد واحد وهو مسجد القرية الكبير».
meflehaladwan66@gmail.com