لقائي الثاني مع المرض كان بين جنبات مستشفى البشير، عندما كنت طبيب امتياز، لكن هذه المرة كان ضحيته ابن عم لي، شاب في نهاية العقد الثالث من العمر، رافقته خلال الأشهر القليلة التي منحه إياها المرض ، بداية من التشخيص إلى العلاج وما عاشه من معاناة، حتى جاءت اللحظة التي رفع فيها الأطباء الراية البيضاء.
لا أدري إن كان لهاتين التجربتين دور في اختياري المبدئي لتخصص اعتقدت واهماً انه الأبعد عن هذا المرض، ألا وهو طب الأطفال، رغم انه لا توجد مرحلة عمرية بمأمن من شره ! لكن تدخل القدر مرة أخرى اخرى ودون ترتيب مسبق مني فساقني إلى تخصص من أكثر التخصصات قرباً من هذا المرض، وهو (الأشعة التشخيصية) والتي تعتبر بمفهومها الحديث وتطورها الهائل محطة إجبارية يمر فيها جميع المرضى في مرحلة التشخيص، وخاصة مرضى السرطان.
مضت الايام والسنون سريعا، ودار الزمن دورته، وشاء القدر ان يضعني على مقربة أكثر من هذا المرض، عندما اختار لي العمل في واحد من أهم المستشفيات التي تعنى به،فعندما انهيت تدريبي كان طموحي ان اعمل في المستشفى الذي تدربت فيه، لكن لظروف خارجة عن ارادتي وجدت نفسي مضطرا الى البحث عن خيارات اخرى، فتقدمت للعمل في احد المستشفيات الخاصة ريثما احصل على فرصة للسفر للتخصص في احد المجالات الفرعية في الاشعة.
وذات يوم في عام 1998 وصلتني رسالة من استاذي وصاحب الفضل الكبير علي في مسيرتي المهنية والانسانية، الطبيب العملاق والانسان الراقي المرحوم الدكتور محمود فياض"الباشا» كما كنا نحب ان نناديه، وكان باشا بحق. يدعوني فيها للاتصال به،، فاخبرني ان مدير » مركز الامل» سأله تزكية طبيب اشعة مميز وذي خبرة للعمل في المركز الوليد، فما كان من الدكتور محمود الا ان اجاب :"ازكي لك شاباً خريجاً جديداً، وعلى ضمانتي»، يا الله ما أثقلها من أمانة حملني اياها استاذي،وكان له دَينٌ في رقبتي إلى يوم الدين. لقد حصلتُ وبحمد الله خلال مسيرتي المهنية على العديد من التكريمات، وحظيت بعبارات الثناء في العديد من المحافل، لكن الكلمات التي غمرني بها استاذي ومعلمي تركت عظيم الأثر في نفسي.
وبرغم مرور السنين ما تزال ذكرى لقائي الاول مع المركز ماثلة في مخيلتي، وكان ذلك مساء يوم الخميس، وقتها استعرت سيارة والدي، اذ لم أكن أملك سيارة بعد، وأذكر انه من فرط توتري أو قلة خبرتي في القيادة أو كليهما معاً قد » حففت» السيارة بجدار مرآب المركز على طول المسار!
لا أكتمكم أن انطباعي الاول عن المكان لم يكن ايجابياً رغم الحفاوة التي قابلني بها المسؤولون عن إدارته، وقد يكون مرد ذلك الى الصورة النمطية التي انطبعت في ذهني عن المرض، وساهم في تعزيزها ذلك الفراغ الذي لمسته في مباني المركز، وأنا بطبعي أميل إلى التطير من الأماكن الموحشة، التي توحي بالنهايات التي انفر منها.
ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي الممتدة مع تلك المؤسسة العظيمة، طبيباً مختصاً في علم الأشعة التشخيصية ورئيساً للقسم،ثم نائباً للمدير العام، إلى أن غمرتني سمو الاميرة غيداء طلال رئيسة هيئة أمناء مؤسسة الحسين للسرطان باختياري لتسلم منصب قيادة هذا المركز، الذي غير وجه رعاية مرضى السرطان في الاردن والمنطقة، وأصبح اسمه يتداول باحترام منقطع النظير في المحافل الدولية، كقصة نجاح وطنية لمركز تخطى الصعوبات المحلية والاقليمية ليحفر اسمه عميقاً في مصاف أكثر مراكز علاج السرطان تميزاً في العالم.
