عبر التاريخ كانت حرية التعبير مؤشراً أساسياً على مستوى النضج في علاقة السلطة بالمحكومين، ويتحقق النضج العلائقي هذا بإرادة سياسية صادقة من قِبل الحكومات في إتاحة حرية التعبير للمواطنين دون قيود أو تبعات، في المقابل يمارس المواطنون حريتهم في التعبير عن آرائهم بمسؤولية ووعي وفي إطار المواطنة الفاعلة، بعيداً عن لغة البروباجندا، وانتهاك الخصوصيات، والتجريح. لذلك يواكب هذا نضج تشكل إطار أخلاقيا ينظم العلاقة بين من يمارس التعبير ومن بيده السلطة في إطلاق الحريات أو منعها.
إحدى المؤثرات الجديدة في مقاربة حرية التعبير بين السلطة والمواطنين هي أدوات التعبير التي ظهرت بسبب التحول الرقمي وتكنولوجيا المعلومات والأتصالات الجديدة، حيث بات بمتناول أي فرد نشر المعلومات أو نقلها وتعديلها أو التعليق عليها، إلى جانب الدخول إلى مواقع ومدونات إلكترونية لا حد لها وكتابة ما يشاء دون قيود أو موانع، الشيء الذي جعل مهمة الحكومات بالغة الصعوبة في دعم حرية التعبير واستقلال وسائل الإعلام وبناء مجتمع المعرفة، والعمل في الوقت ذاته على الحد من الإساءة، وانتهاك الخصوصية، والتضليل والتزييف والتي تتنام? بسبب الأستخدام الواسع للأدوات الرقمية في الفضاء المفتوح.
رغم تنوع أدوات التعبير غير أنَّ التحول الرقمي جعل التقنيات الرقمية هي الوسيط الأكثر توظيفاً للتعبير والتواصل والحصول على المعلومات، وهذا بات يتطلب مراجعة شاملة لقواعد ومتطلبات حرية التعبير والضوابط الأخلاقية الناظمة في ضوء التحولات العديدة، فقد أصبح التعبير والإفصاح عن الرأي والبحث عن المعلومة متاحاً للجميع بسبب سهولة إقتناء أجهزة وأدوات الأتصال، وسهولة أستخدامها، عدا عن أقتحامها معظم تفاصيل حياة البشر، وتعاظم تأثيرها في كافة جوانب حياتهم، الشيء الذي يتطلب بناء مجتمعات معرفة شاملة لجميع أفراد المجتمع، يتاح?فيها الوصول للمعلومات بيسر وسهولة، بموازاة ضمان نزاهة المعلومات وصدقيتها، كما يدفع التحول في شكل وحجم مجتمع المعرفة إلى إضافة أبعاد أخلاقية جديدة.
ولضمان حرية تعبير مسؤولة في ظل التحول الرقمي لا بد من بناء الوعي لدى الأفراد، وتمكينهم من مهارات القرن الحادي والعشرين، وإطلاعهم دائماً على القوانين التي تنظم وتضبط ممارساتهم في التعبير عبر القنوات الإلكترونية، وتوعيتهم من المنزلاقات التي تؤدي بهم أحياناً إلى الوقوع في الإساءة للأخرين أو التعدي على حرياتهم.
عندما تلتقي الأرادة الحقيقية لدى السلطة في إتاحة حرية التعبير مع مستوى متقدم من الثقافة والوعي لدى المواطنين، تصبح حرية التعبير الرافعة الأقوى للديمقراطية، والضمانة الأهم للتنمية الحقيقية، وتخليص المجتمعات من كل التشوهات التي تنجم عن غياب المساءلة المجتمعية التي يعززها التعبير الحر والمسؤول.
Rsaaie.mohmed@gmail.com