شهدت الدولة العثمانية أوضاعا سياسية متأزمة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تمثلت في توقيع العديد من المعاهدات مع النمسا وروسيا وغيرهما، والتي أشارت في جوهرها إلى بداية تراجع سطوة السلطنة العثمانية، ويبدو أن ذلك ترافق مع مصاعب إدارية ومالية على الصعيد الداخلي أثرت على نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك أنظمة التعليم.
وبالرغم من محاولات التطوير العثماني، ابتداء من زمن السلطان محمود الثاني عام 1824 وبعثات محمد علي إلى أوروبا، فقد ظهرت ثغرات في النظام التعليمي والثقافي أدت إلى انتشار الجهل، والتباس الوعي بكثير من قضايا الشعوذة والدجل، فضلا عن العادات التي طغت عليها البدع ونُسبت إلى الدين الإسلامي على غير وجه حق.
وفي مواجهة ذلك جهد العديد من المفكرين لتبديد هذه الظلمات والسير في ركاب الثقافة صوب رفع مستوى الوعي، وتحفيز التنوير. ويحاول هذا المقال إلقاء الضوء على المشاريع الفكرية لبعض هذه الشخصيات مستندا إلى "موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر" للدكتور أيوب أبو دية التي صدرت عن وزارة الثقافة الأردنية.
شكلت آراء الشيخ الأزهري محمد عبدو وأفكاره نقلة نوعية في ذلك الزمن المبكر من عهد تجديد الفكر الديني، وقد تمحورت حول تطهير الدين الإسلامي مما علق به من مفسدات وبِدَع. إذ شرع محمد عبده في الهجوم على أصحاب البدع والتصوف، وحارب التشفع بالأولياء، إلا إنه لم يسلم من النقد، والتهجم الصريح عليه، والغضب من بعض فتاواه، كإفتائه بعدم حرمة لبس البرنيطة وأكل اللحم الأوروبي بصرف النظر عن طريقة ذبحه. والحق أنه لم يتوقف عند هذه القضايا التي قد تبدو شكلية، إذ نهى عن التكفير والرمي بالإلحاد لأتفه الأسباب، والأهم من ذلك حض الن?س على تعلم اللغات الأجنبية، والتزود بعلوم المنطق والرياضيات والفلسفة مفتيا بعدم حرمتها، في موقف معاكس لما قام به الإمام أبو حامد الغزالي في مطلع القرن الثاني عشر للميلاد، والذي قال: "من تمنطق فقد تزندق".
أما علي عبد الرازق الذي درس في الأزهر، ثم تابع دراسته في جامعة أكسفورد، وعين قاضيا شرعيا فيما بعد، فقد عارض مشروع إعلان الخلافة، ودعا إلى مدنية الدولة، على إثر عزل الخليفة العثماني من قِبل مصطفى كمال أتاتورك، وتعرض تبعا لذلك للفصل من الأزهر. ويُعَدّ كتابه "الإسلام ونظام الحكم" (1925) واحدا من أعظم دعوتين لتجديد الفكر الديني والأدبي، إلى جانب كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" (1926). وكان من أبرز ما تضمنه هذا الكتاب أن القرآن والسنة لم يشيرا إلى نظام الحكم السياسي وهيكليته، وأن الزعامة في زمن الرسول كانت ديني? وانتهت بوفاته.
وأكد علي عبد الرزاق أن الزعامة ينبغي أن تكون لا دينية، وأنها ينبغي أن تنشأ على أساس أحدث ما أنتجته العقول البشرية وأمتن ما آلت إليه تجارب الشعوب وأجمعت أنه خير للأمم. وفي الوقت نفسه أكد أن مفهوم الخلافة اقترن بالاستبداد في ظل الدولة العثمانية، وتعزز مع محاولات التتريك الساعية إلى قمع المشاعر القومية للعرب وطمس لغتهم.
أما محمد جواد مغنية، الشيخ والعالم اللبناني الفذ من جبل عامل، فقد استخدم المنهج "اللاهوتاني العقلي" في سعيه للوصول إلى الحقيقة، ويستند المنهج إلى فكرة أن العقائد الدينية مطابقة لأحكام العقل، أو أن العقل شرط ضروري من شروط معرفة الحقيقة الدّينيّة. ويعتبر محمد جواد مغنيّة الفلسفةَ "منهج المناهج"، وأنها التخطيط العقلي لكل تفكير قويم. ويُعد هذا الموقف من الفلسفة موقفا متطورا مقارنة بالفكر الديني التقليدي الذي عادة ما يضع النص قبل العقل، فالعقل هو الذي يفسر النص وبالتالي تكون له السطوة واليد العليا.
ودعا محمد جواد مغنية إلى فتح باب الاجتهاد، ورأى أن ذلك يستدعي من المجتهد أن يكون مستنيرا، الأمر الذي يتطلب توفر العديد من الشروط، كالتخلي عن الوهم بأن الإسلام قادر على مقاومة كل تهديد لمجرد ما فيه من مزايا وخصائص. وطالب مغنية أن يتحرر المجتهد من القيود والتقاليد، التي لا يفرضها عقل ولا دين، لكي يستطيع أن يوائم بين النصوص ومقتضيات العصر، وأن يكون ذا فكر مبدع وخلاق بحيث يكون قادرا على أن يقتبس من القوانين الحديثة ويطورها على نحو يخدم حياة الإنسان وتسمح به شريعة الإٍسلام البسيطة والسمحة.
وعمل مغنية على التقريب بين المذاهب الخمسة الرئيسية (الحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، إضافة إلى المذهب الجعفري)، ولعل هذا من أهم إنجازاته في الإصلاح الديني. وانشغل أيضا بفكرة "العدالة الاجتماعية" نتيجة الوسط الفقير الذي عاش فيه، وكان في مواجهة المحافظين من السنة والشيعة. وبذلك يعد مصلحا اجتماعيا إلى جانب إصلاحه في الفكر الديني. وهذا يزيده إنجازا على إنجاز.
أما الشيخ الأزهري محمد الغزالي السقا فهو من أصول جزائرية إلا إنه ولد في مصر، ونشأ وتعلم فيها، وهو غير أبي حامد الغزالي الذي توفي في مطلع القرن الثاني عشر للميلاد. ويرى الغزالي أن مصادر المعرفة تجتمع في الوحي والوجود معاً، ودعا إلى التفسير الموضوعي لقراءَة الكتاب والسنة بعيداً عن القراءات الشائعة. ونقل الغزالي الخطاب الإسلامي المعاصر إلى موضوعات لم تكن معروفة في الماضي، كالبيئة والتكنولوجيا وأمور الحكم. وكان منهجه في البحث يتجاوز الألفاظ إلى معنى، ولذلك قــَبـِلَ مفهوم "الديمقراطية" الغربي، لعدم معارضته مف?وم الشورى الإسلامي، ودعا إلى العدالة الاجتماعية عبر الاشتراكية في مرحلة من مراحل فكره، وتحديدا من خلال كتابه "الإسلام ومناهج الاشتراكية".
والاجتهاد عند الغزالي ممارسة فكرية ملتزمة، بينما ينبغي أن يُمارس التجديد برويّة وحذر، ولا يمكن ممارسة الاجتهاد إلا بالتفاعل مع الواقع المعيش، لذلك قدم آراء متطورة في حد الردة والطلاق بمجرد اللفظ، وكذلك في الميراث والزكاة ومصارفها وغير ذلك.
وتغير موقف الغزالي من عمل المرأة، فقد نادى في الستينيات بأولوية عمل المرأة في البيت، لكنه عاد ليدعو في الثمانينيات لخلق توازن بين مسؤولية المرأة في البيت ومسؤوليتها تجاه مسائل الأمة عامة. كما قصر الغزالي قوامة الرجل على المرأة في حدود البيت فقط، وهذا موقف تحديثي بلا ريب، كما رأى شرعية تولي المرأة المناصب العليا في الدولة، ما عدا الخلافة العظمى (وفي هذا يتضح تأثره بقاسم أمين والفكر الأوروبي)، وأن للمرأة الحق في التعلم أسوة بالرجل، فدعا إلى إقامة دروس صباحية في المسجد خاصة بالنساء.
كذلك، اختلف محمد الغزالي مع حسن البنـّا لقوله إنّ المرأة ليست في حاجة إلى التبحّر في العلوم الدنيوية. وعارض محمّد فريد وجدي وعبّاس محمود العقـّاد لتحجيمهما دور المرأة، ورأى الغزالي أن الإسلام يعطي المرأة الحق في أن تختار عملها وزوجها، وإذا شاءت أن ترتدي الحجاب فعن رغبة وحرية، وإذا شاءت الاختلاط وفق الضوابط الشرعية فلها حرية ذلك، ولكنه نبه إلى خطر الاختلاط في المرحلة الثانوية حيث تسود المراهقة.
أما المفكر السوداني حسن الترابي، الحاصل على الدكتوراة في القانون، فهو يميّز بين الديمقراطية والشورى، ففي رأيه أن "الديمقراطية في المفهوم الغربي تـُـمارَس على أنقاض الدين، أمّا الشورى في الإسلام فمرتبطة بالدين، فحكم الشعب غير منقطع عن معاني الإيمان»، ويذهب إلى حد اعتبار التمسك بالإطار السياسي البحت للديمقراطية ضربا من الردة والشرك لأنه يشرك إرادة الشعب مع خالقه كما جاء في كتابه "الإسلاميون والمسألة الدّينيّة".
لكن الترابي يدرك أهمية التجديد في فهم الدين، إذ يقول: "فالدين -من حيث هو تديُّن- حادثٌ تاريخيٌّ يَبْـلىَ بالتقادم ويَلزم تجديُده، ويدوم جوهره من خلال الصور العملية تعبيراً عما هو ثابت، وتكييفاً لما هو مَرِنٌ من معانيه وأشكاله"، وهكذا تمكن الترابي من بلورة رؤية فكرية منفتحة على العالم المعاصر إلى حد ما، فقد هاجم التجريد في الفكر الإسلامي وطالب بالخروج إلى الواقع المعيش، والعودة إلى التاريخ والحياة مع روح العصر بعيداً عن استحضار القديم والافتتان به إذ يقول: "لما كانت البيئات المادية المتنوعة، ثقافية واجتماع?ة واقتصادية وسياسية، تتغيَّر باستمرار؛ فإن من الطبيعي والمنطقي أن يتطوّر كسب المسلمين لتراثهم بما يتلاءم مع التغيّر المادي المستمر». واستجابة لمنهجه الأخير فقد أعاد النظر في مفاهيم أساسية، كرفضه لخَبَر الآحاد كحجة في الأحكام، ورفضه لفكرة أن كل الصحابة عُدول، وتمييزه بين المُـلزِم وغير المُـلزِم من أوامر الرسول، وتمييزه بين الرسول كمُشرّع والرسول بما جاء عنه بوَصْفِه بشَراً.
ودعا الترابي إلى الفقه الشعبي، ودعا إلى تحرير المرأة والتأكيد على المساواة المُطلقة بين الرجل والمرأة، حيث أجاز للمرأة الإمامة في الصلاة، وأعطاها الحق في العمل واختيار اللباس، والاختلاط، و حقـَّق تلك الدعاوى واقعياً بدعوته إلى الاختلاط في داخل تنظيمه السياسي.
كما نادى بمفهوم المُواطـَنـَة ليلغي التمييزَ بين أبناء الوطن الواحد على أساس المذهب، فقد فتحت الجبهة الإسلامية السودانية التي يقودها عضويتها لغير المسلمين. ورفض تطبيق حدّ الرِدّة باستناده إلى مقولة "لا إكراه في الدين»، إلا في حالة حَمْـل السلاح، وقال بإيمان أهل الكتاب استجابةً لواقع السودان متعـّدد الأعراق والثقافات والمذاهب، وأرسى قاعدة تنوّع الإسلام وفقاً لبيئته، فسمح بزواج المسلمة من كتابيّ في المناطق التي يكون فيها المسلمون أقلــّية مثل بعض المناطق من السودان، وأوروبا وغيرها من دول العالم حيث يشكل الم?لمون أقلية. وأجاز في رسالته "قيم الدين ورسالية الفن" الإبداع في أصناف الفنون كلها طالما لا تؤدي إلى محظور أخلاقي. وبذلك يكون قد أسَّس لمشروعه العقلاني وهيّأ له بالغطاء الأيديولوجي الملائم.
ختاما نقول إن تجديد الفكر الإسلامي الحديث في مطلع القرن العشرين يذكرنا ببواكير النهضة الأوروبية وعصر التنوير، حيث تجاوزت أفكار المستنيرين الفكر الديني المسيحي التقليدي، ودعوا إلى دولة مدنية يحكمها العقل. كذلك سمح هذا التجديد بتطوير الرؤية الإسلامية للدين فيما بعد كما سنشاهد في فكر عدد من المفكرين الإسلاميين من أمثال خالد محمد خالد، والصادق النيهوم، ومحمد شحرور.