تتباين الآراء حول العولمة وتختلف بين فريقين:فريق يرفض فكرة العولمة، ويدعو للتحصن منها وراء خصوصيتنا متسلحين بهويتنا وحضارتنا، وفريق يدعو للقبول بها والدخول في عالمها والاندماج فيها، وحتى الذوبان أو الانصهار في بوتقتها. لهذا يجد كل من يخوض في البحث حول العولمة أن من العسير تحديد اتجاهاتها.فهل هي حبكة مركزية ترتبط بالأطراف بطريق سريع ذي اتجاه واحد؟وهل هي صيرورة تشكلت في رحم ثقافة الغرب لتجعل من ثقافات الآخرين تابعة لها متأثرة بها أو حتى ذائبة فيها ومندثرة؟ أم هي سلوك إنساني تسلكه مختلف الأطراف في اتجاهاتها ا?متعددة والمتداخلة؟وهي مناخ ملائم لتعارف الثقافات وتحاورها وتكاملها. ان تطور تقنيات الاتصال سيضع الشعوب جميعها في هذا الكون الواحد،على خط سير واحد وأمام فرص متساوية،في مضمار سباق الأفكار،وعندها سيكون بإمكانها، أن تدرك حقيقة المستجدات التي ستنجلي عن العولمة والانفتاح أمام الثقافات وبين الحضارات.
كان مؤسس علم الاجتماع المؤرخ والمحلل الاجتماعي العربي «ابن خلدون» قد دعا الى الإصلاح من خلال استنطاق التاريخ، ليقول بدورة الحياة بالنسبة للدول كما هي بالنسبة للإنسان، تنمو وتقوى وترتفع، ثم تضعف وتهبط. وقد دعا هذا المؤسس لعلم الاجتماع الأمم الى اخذ العبرة من تاريخ الأمم التي سبقتها، اذ أن التاريخ في باطنه نظر وتحقيق، على نحو ما فعله «ميكافيلي» في «الأمير»، و«أوغسطين» في «مدينة الله»، و«بودان» في الجمهورية»، و«مونتسكيو» في «فلسفة التاريخ»، مما لا يعني أبدا أن تاريخ الشعوب مرسوم ترسيمة تاريخية كونيه سابقة على?قيامها. وقد كان ذلك تاطيرا للعمران البشري بادر ابن خلدون الى صياغته في ميدان جديد دعي ب «علم الاجتماع»، وسبق فيه «أوجيست كونت» الذي طرح افكاره في مجتمع متحضر، هو المجتمع الأوروبي، الذي عمل على ابراز افكاره، واعتبارها مولدا لعلم الاجتماع، في حين انبثقت افكار ابن خلدون، في مجتمع لا يقوى على مضاهاة انتشار الفكر الحضاري الأوروبي في ذلك الحين، علما بان فكر ابن خلدون ما يزال مرجعا رئيسيا في كتابات السوسيولوجيين الأوروبيين حتى اليوم..
لقد بقى السؤال الأهم يدور في فلك التساؤلات الخلدونية المتواصلة، والذي يقوم على حفز الثقافة وتفعيلها في المجال العربي الذي كان يعيش أزمة النهاية، حيث التأكيد على ملمح «الهوية» مقابل عنصر التهديد بالفناء، الذي كان يحاصر الأمة،فبعد أن خبا وانهار سلاحها الحضاري، بات من الجلي والأهم أن يتم الركون على ترسانتها الثقافية، اذ ظل ابن خلدون يقدح زناد الأسئلة، فراح يؤسس للبحث الاجتماعي في التاريخ والجغرافية والاقتصاد والسياسة واللغة، في جهد لا يعرف الكلل، في صلب المصدر والينبوع الثقافي الذي تختزنه الثقافة العربية.
وما أحوجنا اليوم إلى الجهود البحثية الكبيرة والمعمقة، في عالمنا العربي الواسع، وعلم الاجتماع فيه بثوب جديد، ويرنو الى ظواهر جديدة وظواهر اخرى، قد طورت ذاتها بفعل التحديث والتجديد وبتأثر بالمستجدات الثقافية والاجتماعية في عالم اليوم الواسع والعميق.
dfaisal77@hotmail.com