د. إنعام القيسي
(ناقدة أردنية)
يشكل الظل عند خالد السبتي، موضوعا مهما في دواوينه، إذ إنه أسكفة أعماله الشعرية، فقد امتدّ عبر ثلاثة دواوين (كظلِّ عابرٍ في الريح، وأنا قمري ظلُّه والغياب، وأنا لستُ ظلّي)، والأخير منها يُشكل موضوع دراستنا الحالية، فقد جاء أولّه الظل، ومتنه وقفلته السرد الشعري بمضامين متعددة جمعها فكر واعٍ حمل همَّ العروبة وقضايا إنسانية واجتماعية ووجدانية مختلفة، أطّرها بنفس درويشي، لا يغيب عن وعي المتلقي وذهن الناقد، جاعلا أنسنة الظل والجمادات ظاهرة مهمة فيه..
ويطل علينا الشاعر في «أنا لستُ ظلي» بثنائية ضدية من خلال العنونة محاولة منه للتجرد من ظله أو الثورة عليه، أو لعله أراد أن يقول: «أنا في العتمة غير الواقع»، ولعلني هنا أوكد على أن الشاعر قد بسط سلطته على دواوينه من خلال الربط بين عنونتها وقصائدها؛ ويبدو أنه أيضاً أراد أن يظهر بصورة مختلفة بين أقرانه من الشعراء إذ يغيب (هو) ويحضر ظله، لتنطوي تحت ذلك رسائل تتضح من خلال ربطها بمتن الديوان وما تضمنه من قصائد.
ويشكل السبتي من ظله إنسانا آخر يتجرد منه، فهو يتركُ ظله على مقعد امرأة خائفا وجلا من اكتشاف حقيقة عدم وجود ظله عند ظهور الضوء ليلا، ولعل ذلك يشي بأن محاولات الشاعر في التجرد من ظله تربكه، وتجعله مترددا، يقول: «قالت امرأة تلاحق ظلها/ فتركت ظلي فوق/ مقعدها وقلت هو الحنين/ وكنت مرتبكا من الضوء الذي/ يتلو احتمال الليل». ويشكل الظلان هنا حكاية أمل وقرار يراوح بينهما في سرده بين الماضي والحاضر ليقرَّ لنا في نهاية القصيدة بالوهم الذي يسيطر على الشاعر، إذ يقول: «وكذا التقيتك/ عازفا ضلَّ الطريق إلى الهوى».
ويبدو أن وراء الظل حالة نفسية مؤثرة شديدة الوطأة على الشاعر، أو واقعاً معيشاً يسعى للخلاص منه، وأراد أن يُلمّح إليه من خلال شعرية الظل وسردياته وأنسنته؛ فالظلال عنده لا تنتهي ولا تتلاشى وإن حاول التجرد منها؛ وهي تمتد في هذا الديوان عبر قصائده المتعددة، حتى أن المنفى والبعد يشكلان عنده ظلا، فنجده يأنس المنفى تارة، ويتبرأ منه تارة أخرى، كما يصطدم بالواقع الذي يعيشه بعد سقوط ظِلاله على حد قوله: «لا شيء يتبعني/ فقد سقطت ظلالي/ وانطفأ ضوء الطريق/ وغبت في الدهليز/ مكتشفا فراغ الحلم...»، ويغدو الليل عند السبتي ظلاً مثقلاً بالتعب الذي لازمه، والبعد الذي أرّقه، فبات يلتف بالذكرى، ويكتب في ظِلال البعد أغنيةً يرددها الظلام.
كما يُشكل الظل أحياناً الطريق التي شهدت حكايات كثير من قصائد الديوان، فجعله (أي الظل) عالما يمور بالحياة، وقد امتلأ بالضحايا والساهرين والأمنيات والعازفين وألحانهم، ومع ذلك فهو يقول: «أنا رجل ضلّ فيه الطريق»، إذ يشكل (الظل الطريق) هنا مفارقة كبيرة في نص الشاعر، الذي احتوى الطريق داخله ليتيه فيه. ويبدو الظل أحياناً أقرب ما يكون إلى السند الذي يتكئ عليه الشاعر، كما ظهر ذلك واضحا في قصيدته «إلى رفيقي (بكر) العابر في ازدحام الحنين».
واللافت للانتباه أن السبتي في قصائد ديوانه يؤنسن الظل ويخلع عليه صفات الإنسان، كما أنَّ دلالات الظل تتطور في ثنايا تلك القصائد، حتى يشير إلى عمر الأربعين الذي يشكل محدداً زمنياً مهماً في الفكر الإنساني، ففي ظل الأربعين يدعو الشاعر إلى التحرر من الخوف ووأده إذ يقول: «كن ما تشتهي/ فلقد تساقطت المسافة واختفى ظل الحديقة/ وابتدا التغريد».
واللافت للانتباه في هذا الديوان أيضا أن الشاعر قدم كثيراً من قصائده في صيغة سردية، حيث يقوم بعرض حدث، أو سلسلة من الأحداث، واقعية أو خيالية بلغة شعرية شفافة، ومن خلال تضافر ثلاثة عناصر أساسية تكوِّن البنية السَّردية للخطاب الشعري، هي: سارد وهو الشاعر، ومرويّ/ الحدث، ومرويّ له/ المتلقي. وينتظم النص الشعري ليشكل مجموعة من الأحداث التي ترتبط بشخصيات في إطار زماني ومكاني محددين. وتشكِّل الشخصيات حجر الزاوية؛ إذ ترتبط بها الأحداث ارتباطاً وثيقاً، وبها يتشكل البناء السَّردي، فالأحداث نقل وتصوير لما يحصل مع الشخصيات، داخل الخطاب السَّردي الشعري.
لقد اعتمد السبتي في سرده على المشهد الذي يقوم على شكلين: أولهما سرد تتوالى فيه الأفعال، بحيث يشعر القارئ بتطور الحدث وتناميه عبر فترة زمنية مناسبة، وثانيهما حوار يساوي ما يستغرقه من زمن في القراءة.
ويأتي المشهد بنوعيه في معظم قصائد الديوان على شكل قصص شعرية أو قصائد قصصية قصيرة تقوم على توظيف المقومات السردية: كالأحداث والشخصيات والزمان والمكان بشكل مكثف، أذكر منها على سبيل المثال: المشهد الذي تتوالى فيه الأفعال في قصيدة «على قلق أسير إلى النشيد» لنقف عند قصة مكتملة العناصر تتمازج فيها الأفعال المضارعة مع الماضية لتشكل حالة من الحاضر والماضي الذي يلحُّ على الشاعر ورغبة جامحة تقوده موسيقى عبثت به فتركته في فراغ (نمشي/ ننسى/ مشيت/ رأيت/ تبكي/ تغازل/ تعود/ تميل/...، ترحلي/ تخفي)، ولم يستخدم الشاعر فعل الأمر في هذه القصيدة إلا مرتين عندما تحدث مع حالمة رآها «تعوّدي أن ترحلي عني/ فاقتفي أثر الفراغ»، ولعل الاستخدامين هنا جاءا نتيجة رغبة تلح على الشاعر بالتخلص من الوهم..
كما يظهر السرد القائم على توالي الأفعال في قصيدة «ومرّ عام»، إذ يستهل الشاعر قصيدته بمقطعين يشكلان مفارقة كبيرة بين صغر حجم الأماني، وكبر الجراح في نفس الشاعر جراء حالة الفقد والحزن والألم التي تسكنه، والوهم الذي ما انفك يُضمّنه في قصائده وظلاله، والمتمعن للأفعال المضارعة في النص يرى تتابعها في لحظات الزمن المتعاقبة إذ تشير كلها إلى الترتيب الزمني القصير في مشاهد هذه القصيدة (ستصغر/ وتكبر/ يتدلى/ يعلو/ يرقص/ ينجو/ تقول/ نكتب/ نمضي/ يتناثر/ نسقط). ولعل التتابع أمر يكشف عن الحالة النفسية التي بدا عليها الشاعر لحظة الإبداع الشعري، على أن هذه الأفعال لا تصف الأحاسيس والمشاعر فحسب، وإنما ترصد وقائع وأحداثاً تجري على أرض القصيدة.
ويظهر السرد الشعري واضحاً في قصيدة «استفاق على غيمة واستدار» التي تماهى فيها الشاعر مع الظل من خلال الحوار الذي أقامه بينه وفتاة جعلته عند اختلافهما ظلا لا يبرح مكانه إلا ليدور حول حقلها: «قالت: ستبقى حول حقلي صامتا؟/ فأجبت كي تبقى عصافير الغناء/ إذا اجتمعن على أحاديث الهيام/ وما افترقنَ كظلنا"ز لقد غدا الشاعر وشخصية الفتاة ظلين معاً في آن واحدٍ.
ولعل وجود الظل في عنوان القصيدة «استفاق على غيمة واستدار» قد شكل صدمة الوعي/ الصحو من الوهم فجاء حمالا لِدلالات مكثفة تتماهى والنص، إذ لا متعة ولا فائدة من الظل ومن الوهم، فكلاهما «أضغاث أحلام».
ويشكل المشهد الشعري القصير عنصراً مهماً من خلال الحوار الذي يظهر في قصيدة «قرب صورتها يستظل الغرام»، إذ يدور حوار بين الشاعر والجميلة حول غرام تولَّد ونما وتلاشى، وقد اشترك في السرد شخوص مثيرون للانتباه منهم: المارّ، ومنهم الغريب، وقد تنامى الحدث عبر الحكاية، حتى أنهى الشاعر قصيدته مستخدما التدوير فقد بدأ الشاعر القصيدة بيمام يستظل بنافذته: (كما يستظل اليمام بنافذتي/ يستظل الغرام)، وأنهى القصيدة بالحمام ونافذة أوسع هي نافذة البحر على حد قوله: «واكتملي خلف نافذة البحر/ وانتظري/ قد يعود الحمام»، وكأنه أراد أن يثبت الظل في الاستهلال ويجعله يختفي في القفلة، إضافة إلى دلالتي اليمام والحمام.
ومما يلفت الانتباه أن ديوان «أنا لست ظلي» يحمل ملامح شعر محمود درويش ويكشف عن تأثر الشاعر به تأثراً كبيراً، فدرويش ظاهر فيه في مواضع كثيرة، أولها العنوان؛ يقول درويش: «أما أنا فأقول لاسمي: دعك مني»، والسبتي يقول: «أنا لست ظلي»، وكما بدا درويش في شعره مسافراً يعبر المدن المختلفة ودائما ما يحزم أمتعته، فقد جاء السبتي أيضا مرتحلا عبر المدن والأمكنة المختلفة تلازمه حقائبه المملوءة بالشوق والحنين، يسير إلى محطتها «أمشي ويتبعني القطار إلى/ محطتها»، بمحاذاة رصيف تارة، وعلى رصيف (ما) تارة أخرى، ولعل في كثرة إيراد (اللا شيء) في قصائده دلالة الأثر أيضا، «فلا شيء يشبهني/ ولا شيء أكبر من رؤاي/ ولا شيء يسكنني/ لا شيء يغرق بالظنون/ ولا شيء يتبعه»، و"لا شيء يحدث قبل/ إعلان الخريف»، و «لا شيء يوقظني من الحلم الغريب».
إضافة إلى الصبغة الدرويشية التي تركت أثراً واضحاً في بعض عناوين قصائد السبتي، منها عنوان قصيدته «كلون السماء وأبعد» الذي يستدعي لأذهاننا عنوان درويش «كزهر اللوز أو أبعد»..
وعلى الرغم من أن السبتي قد تأثر بشعراء آخرين -كالمتنبي وبدر شاكر السيّاب وأمل دنقل- فإن تأثره بهم لم يبلغ تأثره بدرويش؛ لذلك يحاول أن يتخلص من شعوره بقلق التأثر بدرويش، فنجده يقول: «صدفة قد نجوت/ لكنني لم أكن راكبا مثل درويش في الحافلة»، ومع ذلك فإن السبتي ركب قلق التأثر بدرويش الذي بدا واضحا في المعاني والألفاظ والتراكيب والصور وغيرها.