كتاب

هذا الاعتذار.. لمن وعن ماذا؟

عندما تُضبط الدول الاستعمارية بالجرم المشهود ولو بعد عقود فإنها تتلكأ كثيراً وبشتى الحجج والذرائع قبل ان تعرب عن «اعتذارها» للشعوب التي كانت تستعمرها عما ارتكبت من جرائم بحقها بعد ان نهبت ثرواتها، وتحاول اليوم دبلوماسيًا واعلامياً إيهام العالم بان هذا الاعتذار هو اقصى التنازل من علياء عنصريتها البيضاء وغاية المنى بالنسبة لتلك الشعوب البائسة، مع انه في حقيقته ذر للرماد في العيون حتى لو صاحبته تعويضات حسب قوانين دولية صاغتها بعد الحرب العالمية الاولى الدول الاستعمارية ذاتها ليعاقب بعضها بعضًا، ثم أعادت صياغتها بعد الحرب العالمية الثانية لتتواءم مع جرائم المانيا النازية والهولوكوست فيما يسمى جبر الضرر reparation إما بالرد او بالتعويض او بالترضية، وذلك بهدف طي ملف العداء بين الحكومات لتسهيل عودة المصالح التجارية وإيهام المواطنين في الطرفين بان ذلك هو جل ما كانوا يتمنونه وأكثرهم لا يعلمون ان الشركات الكبرى (الكوربوريتس) كانت المستفيدة الأولى من استعمار البلاد الاخرى باكتشاف الثروات الطبيعية ونهبها، ودأبت بعد ذلك على تأجيج الفتن فيما بينها على قاعدة «فرّق تسُد» لإشغالها عن جريمة النهب المستمر في ظل اتفاقيات مبرمة بين قويٍّ وضعيف، وهي تواصل ذلك بالتواطؤ مع حكومات محلية عميلة وصلت السلطة بانقلابات عسكرية من تدبيرها وتمويلها، أو بدعم من قوات التدخل السريع التي تشكلها ابتدعتها كلما لزم.

لو كانت هناك نوايا صادقة عند حكومات الدول الاستعمارية لطيّ صفحات ماضيها الملطخة بالدماء والمدموغة بالفساد لقامت بالاعتذار العلني المباشر دونما حاجة للبلاغة الدبلوماسية المفعمة بالكذب والنفاق، ولقامت بدفع التعويضات لمستعمَراتها السابقة من خزائن شركاتها الكبرى المنتفعة الرئيسية من الاستعمار، لكنها لم تفعل، فمثلاً شهدتْ معظم شعوبنا العربية الاستعماريْن الشريريْن البريطاني والفرنسي اللذيْن خلّفا وراءهما إرثًا لا يمحى من المآسي وأشدها هولاً تواطؤهما مع الصهيونية العالمية بإنشاء إسرائيل لتحل محل فلسطين وشعبها، ومع ذلك لم يقم اي منهما بالاعتذار بل على العكس فكلاهما ما يزالان من اشد المؤيدين للعدوان الاسرائيلي المستمر منذ خمسة وسبعين عاماً، وفي نفس سياق مقالي هذا لكن بالصدفة ارسل لي صديق قبل ايام تعليقاً على كتاب صدر بالإنجليزية مؤخراً بعنوان «الإبادة الجماعية في ليبيا الحديثة.. التاريخ المخفي للاستعمار» للأكاديمي الليبي الدكتور علي عبد اللطيف حميدة بجامعة نيو إنجلاند بالولايات المتحدة يذكّر ألعالم بفظائع الهولوكوست المتكرر الذي كانت ترتكبه ايطاليا الفاشية في المعتقلات الستة عشر التي احتجزت فيها مئات الآلاف من الليبيين الذين هبوا لمقاومة استعمارها (ثورة عمر المختار نموذجاً) منذ اوائل القرن الماضي وحتى اندحارها مع حليفتها المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وها هي ايطاليا نفسها بلا خجل تعود مع أخريات لنهب وتقاسم ثروات ليبيا من جديد.

وبعد.. لست حالماً او ساذجاً إذ أطرح السؤال التالي: لماذا يتحمل شعب دولة ما إثم ما فعلته «حكومته السابقة » التي قامت بارتكاب الجرائم الاستعمارية بحق شعب آخر بدل ان يُحمّل ذلك بقضه وقضيضه على ورثتها السياسيين وعلى الشركات الجشعة التي تواطأت معها في الماضي وما زالت إلى اليوم ماضية في النهب؟!.. حتى لو بدا السؤال غريبًا فإن الأغرب منه ومن ثم أشد بشاعة ان تستمر خدعة الاعتذار المزيف فيقع وزره على أبرياء.. لينجو المجرمون الحقيقيون!.