ثقافة وفنون

غرفة الإنعاش

(1)

في بياض غرفة الإنعاش ما يجعلك غير قادر على تمييز المعالم على الرغم من كثرة الأجهزة الطبية. ثمة ما يجعلك غير قادر على تمييز معالم الوجوه بصورة دقيقة أيضا؛ سألت الممرض: «هل البقية بخير؟». لم يجب، غير أنني شعرت بشيء ما أبرد من الموت؛ أمواج أفكار غائمة لن تتمكن من تمييز فحواها، صور تبدو مبعثرة ككومة أحلام، وجوه لا تستطيع إثارة أي شعور بالقرب أو البعد أو الشوق أو الحب.

بعد خروجي من غرفة الإنعاش أقمت في بيتي نفسه؛ إنه بيتي الذي بناه أبي على مدى أربعين عاما؛ كلما توفر معه قدر من المال أضاف غرفة؛ هذا ما يضطرك إلى صعود درجة غرفة الضيوف، وأخرى للمطبخ، بل إن غرفة النوم تحتاج إلى هبوط درجتين. كانت أمي تتضايق من جلوسنا في عتبات الغرف حين كان البيت غرفا متناثرة تتوسطها ساحة سماوية، هذا قبل أن يقوم أبي بالحدث التاريخي الذي سقفَ فيه تلك الساحة، ليكون البيت متّصلَ السقف.

أقمت في البيت نفسه غير أنني لم أرَ فيه غير معالمه القديمة؛ لم أشعر للحظة بوجود سقف في الساحة؛ كانت السماء زرقاء صافية تمتد من شجرة الليمون التي زرعت في زاويتها، دالية تتسلق حتى تصل إلى النجوم لتتدلى قطوف عنب تبدو أبعد من أن تطالها، لاح لي طيف عشبة الفيجل بزهورها الصفراء أكثر من مرة، لم أعلم لماذا كان الدود الملوّن يحب الفيجل تحديدا، الدود هنا زينة قد لا تصدّقها للوهلة الأولى، لكنك حين ترى أنه أخذ لون الفيجلة الخضراء الذي قطعت اتصاله نقاط صفراء وسوداء ستستوعب البعد الجمالي.

في الأيام الأولى بعد خروجي من غرفة الإنعاش فقدت القدرة على النوم، أمضيت أكثر من ثلاثة شهور أنام أقل من ثلاث ساعات في اليوم، أستيقظ فيها بحركة ستارة الشباك حين تهزها نسمة قوية لتلامس طرف الطاولة، وكثيرا ما كنت أرى في المنام أنني أبعد الطاولة عن طريق الستارة التي اعترضت موجة النسيم، أستيقظ على الحلم، أشعل سيجارة، وأنسى ربط الستارة المزعجة. صمت الموت أعلى من ضجيج الحياة؛ إنه يحفر أعمق في الوجدان حتى تبدو الذات هلاما لا يستقر على شكل. لم أكن قادرا على استيعاب الوفاة، وفكرت في أن الإنسان غير قادر على استيعاب الموت إلا حين يتملكه.

مرت الأيام الأولى بعد خروجي من المستشفى بصعوبة، غير أنني فيما بعد صرت أتجول في حديقة المنزل، ألقى أبي مرة، وأمي مرة أخرى، وكنت ألعب مع إخوتي، أقطف حبات من شجرة اللوز، وأداعب قطتي التي أحملها على كتفي باستمرار؛ لم أخشَ من أن تسبب لي مرضا أو أن تزعجني، وكنت أنظر إلى أبنائي من بعيد. لعلهم أكثر استقرارا الآن.

حين مرّ أبي آخر مرة كنت أجلس في عتبة الغرفة الشرقية، أخبرني مبتسما بجمال الفيجل، وشجعني على التأمل أكثر بعناقيد العنب التي تدلت من النجوم، قال لي إنه سيرسم لي جدارية تتوسطها الفيجلة التي تزينها دودة القز، أشار بيده إلى يمينه وقال: «هناك باب». كل هذا قاله أبي دون أن يتحدث؛ كانت ابتسامته أهدأ من عشبة الفيجل، وكنت أصغي إليه بانتظار أن يطلب مني أن أسقي أشجار الزيتون.

كنت أسوق السيارة بهدوء غير أن طول الرحلة التي خرجت فيها مع العائلة جعلتني أشعر بقدر من الملل والرغبة في تغيير سرعتي، مرت سيارة عن يساري وأطل السائق إلى جهتي بقدر من الازدراء، لم أعلم ما الذي دفعني إلى خوض سباق لم أتعاقد عليه مسبقا، فتجاوزت السرعة القانونية حتى أكون أمامه وأنظر إليه بنظرته نفسها، وقد سبقته بالفعل ونظرت إليه تلك النظرة المزدرية، غير أنها كانت آخر نظرة تحدّ، لم أفق بعدها إلا في غرفة الإنعاش.

ربما يكونون الآن أخفّ في عالمهم، وقد يكون عالمهم ماسيّاً جميلا، وقد عرفت من فيلم وثائقي أن سماء زحل تمطر ماسا. لا تعلم أيّ العوالم أجمل أو أيها أكثر رتابة وسلاما. نظرت من نافذة الغرفة الغربية فوجدت شجرة الزيتون تمد غصونها إلى يدي، شممت رائحة الزيتون وشعرت أني لا أتجاوزها، فركت أوراق الزيتون بيدي فذابت لتتساقط قطرات مياه تسقي أرضها. لم أشعر لوهلة أنني في عالم سحري، ولم أحاول أن أتلمس جزءا من جسدي لأتحقق من شيء. في اليوم نفسه صعدت منصة الإذاعة المدرسية وقلت للطلبة إنهم لا يتحدثون عن مجزرة قانا في جنوب لبنان، وأنكرت عليهم أن ينشغلوا بأحلامهم الشخصية والتهكُّم على المعلم الذي يضمّ باء «بغداد». التقيت في الساعة نفسها مع حبيبتي في كلية الفنون، وقلت لها إننا جذور أحلامنا بأبنائنا وأنهم شجر. في الساعة نفسها صعدت شجرة الأسكدنيا الفارعة الطول، أكلت من ثمارها، ورأيت أمي تسقيها وتنبهني إلى أنها وجدت أفعى في حوضها قبل سنة، والحقيقة أن الأفعى كانت تتسلق ساق الأسكدنيا، غير أني لم أرَ فيها إلا جزءا من زينة الطبيعة ومكوناتها الملونة.

(2)

ذلك التافه سبب موت أبي، مرّ ونظر إليه باستخفاف. أبي مثل البشر قد يمر بلحظة تحدّ أو خفّة، غير أن الحظ يؤدي دورا سيئا في كثير من الأحيان. كانت أمي في غرفة الإنعاش حين مات أبي. سرت في جسدي رعشة طويلة حين لفظت آخر أنفاسها وبكيت. كنت حينها في قسم العظام لجبر قدمي المكسورة. في تلك الرحلة المشؤومة كانت أمي تجلس إلى جانب أبي تبحث عن أغنية لعمرو دياب في «يوتيوب». لم أعلم إن كانت تحب أبي، ولم أعلم إن كان أبي يحبها، غير أني أشعر أن الاتصال بينهما ليس كما يجب.

كفّنوا أبي وأمي، وذهبوا بهما إلى المقبرة، قدم المعزُّون واجب العزاء لأعمامي وأخوالي. هذا ما عرفته عما كان من أمر جثتيهما اللتين لم نرهما، أختي في قسم العظام أيضا، ولم يسْلم أحد منا من ضرر. زرت قبريهما قبل يومين. لعلهما مرتاحان الآن في عالمهما السرمدي، وقد تابعتُ برنامجا وثائقيا مع أبي عرفتُ فيه أن سماء زحل تمطر ماساً، فما أدراك بالفروق بين هذه العوالم.