قبل أعوام، جادلني أحد الأصدقاء، حول أقدم الكتب المنشورة والبعثات الاستشراقية، عن الجغرافيا الأردنية الحالية. وقبله أيضاً بأعوام، دار حديثٌ مشابه، مع أحد الجيولوجيين الأردنيين، المهتمّين بالموارد الطبيعية التاريخية الأردنية، وأقدم الاهتمامات الغربية بها. وكان مفاجئاً لهما ما ذكرته عن وصول بعثة أمريكية عسكرية متخصصة، في العام 1847م، تابعة للقوات البحرية الأميركية، مِن أجل مسحٍ جيولوجي شامل، للبحر الميت وجواره، وتحديد مخزونه الجيولوجي، من الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى الجبال المحيطة به، وكذلك تحديد مواقع المدن التاريخية، أو «التوراتية..»، الضائعة. حيث قامت البعثة العلمية العسكرية، بتدوين نتائج مسحها واستكشافها، في كتاب ضخمٍ صدر في العام 1849م، ويشتمل على خرائط جغرافية دقيقة، لكامل أخدود الأردن، الذي يضمّ البحر الميت وجواره، وكذلك تحديد مواقع المدن التوراتية الضائعة عليها. وقد استنكر الجيولوجي المختصّ وجود البعثة أو الكتاب، نافياً وجود بعثاتٍ استشراقية علمية في الأردن تعود إلى ذلك التاريخ.
وفي الأخبار، التي نشرتها إحدى الصحف اليومية الأردنية قبل نحو عقد، أنّه و«تنفيذاً للاتفاقية الأردنية الروسية»، بخصوص «السماح للفريق الفني الروسي في البحث والتحري عن المدن الضائعة في البحر الميت»، فقد تمّ عقد «اجتماع مغلق..» بين الجانبين، برئاسة «الدكتور يوري كودينوف، ممثل فورتي ميديا الروسية في موسكو، وخبراء من مركز الدراسات والاختراعات العلمية الروسية»، وذلك مِن أجل البحث والتنسيق «في آلية عمل الفريق الفني الروسي، الذي وصل إلى الأردن..»، في عملية «الكشف عن المدن الضائعة في البحر الميت منذ آلاف السنين...».
وتقرّر البدء بالعمل، في شهر آذار/مارس من العام 2011. حيث سيزوّد الأردن الفريق الروسي «بقارب خـاص للعمل..»، يتلاءم مع بيئة البحر الميت وطـبـيـعـة مـيـاهـه. وسيتكوّن العمل من ثلاث مراحل متتالية؛ الأولى تشمل «جمع المعلومات والـبـيـانـات الـرقـمـية، لأعماق البحر الميت، فـي الـمـواقـع الـمـحـتـمـلة..» للمدن الضائعة. والثانية، تشمل «تحليل البيانات وتقييمها في روسيا..»، وتزويد الجانب الأردني بنتائج التحليل أولاً بأوّل. أما المرحلة الثالثة، فتتحدّد استناداً إلى «نتائج دراسات المرحلة الثانية..».
وفي الاجتماع نفسه، عرض الجانب الروسي خريطة، يبلغ عمرها ألفين وخمسمئة عام، و«مأخوذة من مركز الوثائق والمعلومات الروسي في موسكو..»، وفيها «أسماء أربع مدن، وليس اثنتين، وهي؛ زيبويم، وسادوم، وعامورا، وأدمه..». كما تمّ عرض صورَ أقمارٍ صناعية روسية، فيها توضيح للمواقع الفعلية «للمدن الضائعة، وبعض المعالم الأثرية لها..».
وفي توضيح الخبر، ذكرت الصحيفة أنّ الأردن، وبعد «فشل الجانب الإسرائيلي والبريطاني، في الكشف عن هذه المدن، في الجانب الغربي للبحر الميت..»، قام بتوقيع اتفاق رسمي مع روسيا، من أجل «البحث والكشف..»، عن هذه المدن، وذلك بعد وجود مؤشرات تدلّ على «احتمالية وجودها في الجانب الأردني من البحر الميت، ابتداء من جسر الموجب شمالاً، وحتى غور الصافي جنوبا..».
بالنسبة إليّ، فإنّ الخبر، وعلى علّاته، مذهلٌ، وعلى مستوياتٍ عديدة، يصعبُ تفصيلها هنا. فالمدن المنكوبة، وعلاوة على ورودها في الكتب السماوية الثلاثة، وكونها تُعتبر مفصلاً معرفياً توراتياً مهمّاً، فإنّها تشكّل، حتّى الآن، أساساً لتحديد وتعريف عدد من شعوب المنطقة القدماء، والتي بُنيت على أساسها تواريخ معاصرة لتلك الشعوب، وما تزال تدخل في تكوين رؤى ومعتقدات سياسية واجتماعية، لبعض شعوب الإقليم العربي.
أما اللافت أكثر، فهو الفارق الزمني، بين المحاولة الأمريكية الأولى وبين المحاولة الروسية، والتي تزيد على قرنٍ ونصف القرن. أما ما بينهما، ففشلٌ صهيوني كبير، في الإمساك وامتلاك التاريخ القديم، من ناصيته، وتخبّطٌ بريطاني، يفوق الفشل بأضعاف، عبر انحكام المحاولة العلمية البريطانية إلى الرؤية الصهيونية السياسية، في إعادة استكشاف وإنتاج معارف «البؤرة الحضارية الأقدم..»، للعالم القديم كلّه!
fafieh@yahoo.com
«سَدومٌ وعَمّورة..؟»
10:52 24-12-2022
آخر تعديل :
السبت