حين تنأى المفاهيمُ عن معانيها القديمة، إلى حيث لا يعرف أحد، فإنّ لحظة الالتباس العظيم تحدثُ في حياة الناس. فحينها؛ لا وَرق الأشجار الأخضر يشكّل نبوءةَ ربيع، ولا الورق اليابس، المتساقط على الأرض، يشكّل نبوءةَ خريف. في تلك اللحظة، يكفّ الطاعنون، في المواسم والأنواء، عن معارفهم. فيسكُن القَطرُ، بلا بشائر أو نُذّرٍ عن مطر محتمل، وتتسابق فؤوس النَهم إلى أشجارنا، وبلا بشائر عن حطبِ شتاء. أما الاستسقاء، فنفاقٌ مراوغ، يُثيرُ سخرية النملِ والنحلِ والكائنات.
في مواسم كهذه، يتكاثرُ الغرباء على نحوٍ غريب. ومفهوم «الغرباء..» هنا لا يعني «الأجانب..». بل شيءٌ آخر، يُلامسُ نمطاً لعيشِ ينسلخُ عن جلده، أو يكاد. عيشٌ يقارب الاغتراب، ولا يصله. يقتربُ من التقمُّصِ قليلاً، ثمَّ يفرُّ مسرعاً. يتوقُ إلى التحليق بعيداً، فيصفعهُ الواقعُ بعنفٍ يُدمي جبهتَهُ، فيُصابُ الأفرادُ بأمراضٍ خفيّة لا شفاء منها. ويعمُّ الاكتئاب.
وفيها أنّ الهواء يصبحُ دَبِقاً، في حياة الغريب، على نحوٍ لا يُحتمَل. فالأشياءُ تُعيد «تأثيث..›› صورتها، بحشودٍ من نملٍ طيّار. والزيفُ يتسلّل إلى خزانة الملابس، التي تختبئُ فيها «البلاد..››، ككنزٍ مسحور. ويحلمُ المراهقون منهم بالريش، كي يدفنوه في وسائدَ خالية. وفي أرضٍ لا أحد فيها ينتظرُ أحداً، ولا حتى طائر يقتسمُ مع الغريب فجره البارد. هناكَ، وحدها الفكرة البلهاء تهبطُ، في صدورِ الغرباء؛ حيثُ يعرفون كيف يخترعون بلاداً تكذب عليهم، ويحبّونها، انتظاراً لعذابات مؤجّلة، تخبِّئُها المنافي.
ودونَك هذا المدى العريض مِن أوهام الغرباء؛ ريشةُ طائرٍ تحمل للغريب بلاده. وما أخفَّ تلك البلاد..! وغريبٌ تحثُّهُ كلُّ الحواس على الإنكار. فهو لا يتصوّر أنّ بمقدوره أن يرى البلاد بعينيّ طائرٍ محلّق. فهي «أرضٌ فوق كلّ أرض. وهي بداهةُ كلّ أرض. وهي الأرض كلها..!››. وأرض الغريب بإمكانها «أن تكون على حق دائما..››. ولأنّها كذلك، فإنّ الغريب يحصلُ منها دوماً على ما يريد، فالوهمُ أخفُّ من ريشة طائرٍ.
أما الحقيقة، فإنّ البلادَ، التي تختبئ في «خزانةٍ..››، حتى لو كانت من «ضلوع..››، ليست بلاداً. وأسراب الطيور، التي تملأ فضاء عين الشمس، ليست وحيدة، إلا إذا انفردت، أو تفرّدت. والشبيه في المنفى ليس شبيهاً، إلا بوهم الفكرة عن بلاد بعينها؛ بـ«أنها الملاذ الأخير..››.
وفي المقاديرِ، أنّ خزانةَ الضلوعِ، التي تُخبئُ أرضَ الغريب، قد تنهارُ، أو تخذلُ صاحبها في المسير. وأنّ بلادَ الغريب البعيدة قد تنكسر، وتصلُ الشروخُ إلى ما خبّأته الضلوع. وأنّ الفكرةَ عن «شبيه المنفى..» قد تتهشّم هشاشتها. وهنا، تعود المواسمُ إلى سابق عهدها في التتابع. فيتلو الخريفَ شتاءٌ مراوغ، يُتقنُ فنّ الوصولِ إلى الثقوبِ، في خزانات الضلوع، التي ثقّبتها الليالي.
وفي المقادير أيضاً، أنّ الأمهات، في البلاد البعيدة، يواصِلنَ رَثيَ الثياب، وما انفتقَ، في العمر، مِن جروح. ويُشعلنَ نارَ الصباح، بلا قهوةٍ. وتوضيبَ ما ظلّ في البيت من بقايا. لعلّ الزمان يُعيد الغريبَ إلى أوّله..
fafieh@yahoo.com