كتاب

«تَنَوُّعٌ عربيّ..»

ليس صحيحاً أنّ الفروقات الشكلية الاجتماعية، في العادات والتقاليد والعلاقات اليومية، تشكّل في جوهرها اختلافات يمكن البناء عليها، والتأسيس عليها لبناء هويات سياسية مختلفة. ذلك أنّ الهويات الأساسية، ومهما كان نوعها، يرتبط استمرار وجودها بالبنية السياسية التي تُمثّلها وتعبّر عنها. أما ما نراه اليوم، من فروقات في نماذج اجتماعية عربية، تأخذ شكل الدول والتجمعّات السياسية، فقد اقتضتها ظروف سياسية محدّدة، وأسهم في تكريسها استمرار وجود تلك الدول في مراحل ما بعد الاستقلال.

ولعلّ التحليل الثقافي، غير المتشنجّ، للهويات السياسية العربية، التي تشكّلت خلال القرن العشرين، والعصبيات التي تمّت تنميتها، من أجل رَفدها، يُسهم في إعادة الاعتبار للزخم الوحدوي الجارف، الذي ما يزال، جوهرياً، يغمر المنطقة العربية برمّتها. ومن دون التقليل من قيمة الهوية والشخصية المكتسبة لأيّ تجمّع عربي، فإنّ إعادة تفكيك العناصر السلبية، التي أُقحِمت، كعصبيات وهمية، على معظم الهويات السياسية العربية، ربما يسمح بتقليص عناصر الهشاشة، التي ألمّت بالهوية العربية الجامعة، على مدار عمليات التجريب والاختبار، التي أ?ضِعت لها قسراً طوال القرن العشرين، ولا تزال.

ونتحدّث هنا عن عناصر الهشاشة المرئية والمحسوسة، على مستوى اللهجة والممارسات اليومية والاجتماعية، بصفتها الأكثر وضوحاً أمام الناس العاديين، وما صنعته من أوهام، على أنّها فروقات واختلافات أساسية، تستدعي قيام كيانات سياسية مستقلّة تعبّر عنها. في حين أنّ تلك الفروقات، ما هي إلّا اختلافات طبيعية، وموجودة داخل كلّ بلد عربي قائم حالياً، ينظمها خطّ التدرّج، الحضريّ والمديني، التاريخي في التطوّر. ويمكن للمرء أن يتتبّع ذلك، وفي كلّ بلد عربي على حدة، من الشمال إلى الجنوب، أو من الشرق إلى الغرب، أو من مدن الصحراء إلى ?دن السواحل. وفيها، سيرى المدقّق، هويات البادية ثمّ الريف ثمّ المدينة، جنباً إلى جنب، مع تدرّج أنماط العيش القاسي إلى الريفي إلى الحضري أو المديني أو شبه المديني. كما يمكن للمهتّم العادي أن يلحظ تدرّج خشونة اللهجة وجزالتها أو نعومتها، بالسير المعرفي مع اتّجاهات أنماط العيش، فتقسو اللهجة وتزداد خشونة، من الشمال إلى الجنوب، ومن الساحل نحو الصحراء، بينما ترقّ وتخفّ جزالتها، بالسير الجغرافي في الاتّجاهات المعاكسة.

ولعلّ المفاجأة المعرفية، في مستوى الفروقات الشكلية، القادمة من أشكال العيش وأنماطه التاريخية، تكمن في أنّ ذلك التدرّج ينطبق أيضاً على كامل الجغرافية العربية ككلّ، وخصوصاً إذا أُخذِت كُتلتا العيش الأساسيتان فيه كلّ على حدة؛ كتلة المشرق العربي، وكتلة المغرب العربي، التي يفصلهما عن بعضهما البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء. فالتدرّج الحضري، تجده صاعداً من عدن في الجنوب إلى اسكندرون في أقصى الشمال، ومن جبال صلالة في أقصى الشرق، إلى حيفا في أقصى الساحل الغربي، لكتلة هذا المشرق العربي. وفي الكتلة الغربية للعرب، تجده ?اعداً من جوبا في أقصى الجنوب إلى بور سعيد في أقصى الشمال، ومن عريش سيناء شرقاً إلى طنجة في أقصى الغرب. مع ما يرافق ذلك التدرّج الطبيعي، من اختلافات وفروقات في المأكل والمشرب والعادات والطبائع والتقاليد، وعلى نحوٍ لا يجعل أيّا منها هوية سياسية قائمة بذاتها.

أهمية هذا الحديث أو ضرورته، تأتي في زمن يتزايد فيه اللغط، عن الطموحات العربية، وعن محاولات إجهاض أجنبية وداخلية لتلك الأحلام. وهو لغطٌ يُوظّفُ فيه كلّ شيء، وفي المقدّمة منه الحروب الثقافية، التي تستند في معاركها إلى هويات وعصبيات فرعية، لا سند لها سوى تلك الفروقات، التي ترعرعت في مستنقعات آسنة..!

fafieh@yahoo.com