أصدرت محكمة التمييز الموقرة قبل أيام قرارها بنقض الحكم الصادر عن محكمة بداية جزاء عمان بصفتها الاستئنافية، والقاضي بإدانة أحد أعضاء مجلس الأعيان بجرم التسبب بالوفاة وحبسه لمدة ستة أشهر، حيث استندت أعلى جهة قضائية في حكمها الصادر عنها على المادة (86/1) من الدستور التي تعطي أعضاء مجلسي الأعيان والنواب حصانة من التوقيف والمحاكمة أثناء اجتماعات المجلس.
فقد اعتبرت محكمة التمييز أن إجراءات محاكمة عضو مجلس الأعيان قد تمت في الفترة التي كان فيها المجلس مجتمعا في دورة عادية، وأنه كان يتعين على المحكمة الجزائية - مع الاحترام - أن تتبع الإجراءات التي حددها المشرع الدستوري، والتي تتمثل بتقديم طلب إلى مجلس الأعيان لرفع الحصانة عن العين المشتكى عليه، أو الانتظار لحين انتهاء الدورة البرلمانية.
إن هذا الحكم القضائي قد جاء تكريسا لمفهوم الحصانة النيابية بصورتها المتمثلة بالحصانة الإجرائية، والتي تحظر توقيف أحد أعضاء مجلسي الأعيان والنواب أو محاكمته خلال مدة اجتماع المجلس، ما لم يصدر من المجلس الذي هو منتسب إليه قرار بالأكثرية المطلقة بوجود سبب كاف لتوقيفه أو لمحاكمته، أو ما لم يُقبض عليه في حالة التلبس بارتكاب جريمة جنائية.
فالحصانة الإجرائية بهذا المفهوم تعد سببا دستوريا يحول دون اتخاذ أي من الإجراءات الجزائية في مواجهة من تقررت له من أعضاء مجلس الأمة، وذلك بصفة مؤقتة وخلال اجتماع المجلس في أي من دوراته البرلمانية. فهي بهذه الصورة تعتبر إجراء استثنائيا اقتضته ضرورة استقلال السلطة التشريعية عن السلطة القضائية، ضمن أسس وقواعد محددة يجب عدم التوسع في تفسيرها أو تطبيقها، ومن شأنها أن تُمكن عضو السلطة التشريعية من ممارسة المهام الدستورية المناطة به، والمتمثلة بالتشريع والرقابة ضمن الحدود المقررة لمجلس الأعيان في الدستور الأردني.
وهذه الحصانة الإجرائية لا توجه مباشرة إلى النص القانوني الجزائي فتلغيه أو تمنع تطبيقه بشكل مطلق، وإنما يقتصر أثرها على عدم مباشرة الجوانب الإجرائية على عضو مجلس الأمة في حال انعقاد الدورة البرلمانية. فهي لا تنزع عن الفعل المرتكب الصفة الجرمية إذا توافرت أركانه المادية والمعنوية، بل تحول فقط دون مباشرة أو استكمال الإجراءات الجزائية إلا وفق الضوابط التي أوردها المشرع الدستوري، والتي تتمثل بالحصول على موافقة المجلس الذي ينتمي له العضو في السلطة التشريعية.
وعليه، فإن الأثر المترتب على الحصانة الإجرائية يتمثل في تأخير اتخاذ بعض الإجراءات الجزائية في غير حالة التلبس، وتعليق مباشرتها على الحصول على إذن المجلس الذي يتبع له عضو مجلس الأمة، دون أن يكون لهذه الحصانة أي أثر على الدعاوى المدنية، إذ يجوز مخاصمة أي عضو من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب أمام المحاكم النظامية المختصة، لتحصيل الديون أو المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي قد يكون قد تسبب فيه العضو البرلماني.
وفيما يخص التساؤل عن طبيعة الجرم المسند إلى عضو مجلس الأعيان وبأنه لا يتعلق بعمله النيابي وإنما بالمهنة الطبية التي يمارسها، فإن قرار محكمة التمييز الموقرة في هذا السياق قد جاء موافقا للأصول الدستورية وإطار الحصانة النيابية كما حددتها المحكمة الدستورية في قرارها التفسيري رقم (7) لسنة 2013، حيث جرى توسيع نطاق الاستفادة من هذه الحصانة لتشمل كافة الأفعال التي يرتكبها النائب أو العين بصرف النظر عن تعلقها بعمله النيابي من عدمه، ودون أي اعتبار للوقت الذي جرى فيه ارتكاب هذا السلوك.
فقد وصفت المحكمة الدستورية الحصانة النيابية بأنها حصانة إمهال وليس «إهمال»، وبأنها قد جاءت مطلقة من حيث زمان وقوع الفعل المرتكب؛ إذ لم يميز المشرع الدستوري بين جرم ارتكبه العين أو النائب قبل اكتسابه صفة العضوية في أي من المجلسين أو بعد اكتسابه هذه الصفة، وبين فعل متعلق بعمله النيابي أو غير ذلك. ففي جميع الأحوال لا يجوز توقيف أو محاكمة أحد أعضاء مجلسي الأعيان والنواب خلال اجتماع المجلس إلا بعد رفع الحصانة عنه بقرار يصدر بالأكثرية المطلقة لأعضاء المجلس الذي ينتسب إليه العضو المطلوب توقيفه أو محاكمته.
تبقى الإشارة إلى أن اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية كانت قد اقترحت تضييق نطاق الحصانة الإجرائية ليقتصر أثرها على عدم جواز توقيف العضو أثناء اجتماعات المجلس دون محاكمته، إلا أن هذا المقترح قد رفضه مجلس الأمة بشقيه الأعيان والنواب.
أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية