كتاب

مسيرة الاستقلال

لم تكن سوى مسيرة مشرفة؛ تاريخ حافل بالكثير من المنعطفات والمفاصل والمحطات والأحداث في مسيرة الأردن منذ بداية الرؤية الثاقبة للنهضة العربية من قبل شريف مكة المكرمة وعبر المشروع العربي الشامل لمنطقة استراتيجية هامة وذات طابع جغرافي وتنوع مميز وحضارة فريدة.

منذ عهد الإمارة وإلى إعلان الاستقلال، ومنذ رؤى الأمير عبد الله الأول لمملكة وحاضرة دولة ذات سيادة في وسط تحولات جذرية من قبل القوى المؤثرة والعديد من المخططات لرسم ملامح المنطقة العربية.

حرب عالمية أولى وثانية، ألقت بظلالها على ظروف عديدة في منطقة الشرق الأوسط وبتحالفات استراتيجية، ولم تكن الحسابات سهلة؛ كانت معقدة ووصلت إلى درجات من الخطورة والتأثير على مستقبل البلدان بتوازن مرهون بالنتائج، فكان غياب نفوذ الدولة العثمانية بظهور القوى التركية ومحاولات نزع النهج العربي القومي من البلاد وكان المشروع النهضوي الهاشمي للحفاظ على الهوية العربية الإسلامية وربط الاستقلال بالسيادة التامة وإرساء بناء الإمارة ومن ثم المملكة الأردنية الهاشمية.

يُشهد ويُسجل للملك عبد الله الأول الفطنة واليقظة والحنكة والمفاوضة وبعد النظر في مجمل رؤيته للأحداث والتطورات والتحديات والبدائل المتاحة حينئذ من المواجهات السياسية والعسكرية والمواجهات المحتملة والخروج بنتائج مرضية للشعب الأردني.

مسيرة الاستقلال في عامها السادس والسبعين، تحمل في طياتها تفاصيل وظروف كثيرة من الصبر والثبات، تعرض خلالها الأردن كدولة ونظام ومملكة إلى جملة من المخاطر والمؤامرات والمخططات والدسائس والفتن والشدائد، خرج منها والحمد لله بقوة وصمود وكسب احترام الجميع، بما حباه الله من قيادة هاشمية مظفرة بالنصر والسؤدد والرشاد.

المشروع النهضوي والذي تبناه الملك عبد الله الأول، كان بمثابة عهد من التأسيس والبناء والعطاء والتوازن والانسجام، إلى جانب من الذكاء والتفكير العميق والتدبير وحسن التنظيم.

في كل مرة أرجع لكتاب «مذكراتي» لعبد الله بن الحسين والذي خطه بكلماته ووشحه بتوقيعه وذكر: «هذا دفتر حياتي، أودعه أيامي والليالي، وكفى بالله حسيبا، أنا عبد الله بن الحسين صاحب النهضة العربية الأخيرة وموقظ قومه من رقدتهم ومؤسس ملكهم»، يطيب لي التذكير بقراءة هذا المرجع الهام عن تاريخ النهضة العربية وما تضمنته من أحداث ومنعطفات وحتى من دسائس وحيل ومواجهات.

محطات من النضال في سبيل القضية العربية ومساعي الوحدة، وإرساء القواسم المشتركة بين الأقطار العربية وتحت لواء قيادة حكيمة تعمل لصالح الأمتين العربية والإسلامية والإصلاح العصري ومن خلال الثورة العربية الكبرى والتي جاءت ملبية لمعنى النهضة الشاملة والتحرر والسيادة والتنوير.

كما أشرت يمكن للقارئ التجول في رحاب مذكرات الملك عبد الله الأول، والتنقل بين صفحات من التاريخ الخاص والعام من التوازن بين النفوذ ومشروع الاستقلال وبين قواعد الحوار مع الإنجليز وتشكيل الحكومات وبين بوادر الثورة والإعلان عنها عام 1916 وبداية التاريخ الأردني العربي الهاشمي، وتأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921 ومن ثم استقلال الأردن في يوم 25 مايو 1946 وافقت الأمم المتحدة بعد نهاية الانتداب البريطاني، الاعتراف بالأردن كمملكة مستقلة ذات سيادة، وأعلن البرلمان الأردني الملك عبد الله الأول ملكًا عليها، الذي استمر في الحكم حتى تم اغتياله في عام 1951 بينما كان يغادر المسجد الأقصى في القدس.

استمرت الجهود الأردنية الهاشمية في عهد الملك طلال بن عبد الله وصدر الدستور الأردني عام 1952، ليشكل ركيزة من دعائم مؤسسة العرش وأركان الدولة وتنظيم شؤونها ويُسجل لجلالة الملك طلال قدرته الشاملة للتناغم بين الحس الوطني والمسؤولية الوطنية وصياغة دستور دقيق.

تولى الراية والحكم جلالة الراحل الحسين بن طلال عام 1953وجاهد خلال فترة حكمه ومنذ اللحظات الأولى للحفاظ على الأردن وشعبه نموذجا للوحدة والصمود، ولا يخفى على أحد حجم التحديات التي مر بها الأردن خلال تلك الفترة ومن القريب والبعيد ومن المحاولات والمؤامرات والخطط والتي تصدى لها الملك الراحل الحسين بالتفاف شعبه الوفي حوله وانتظام قوته العسكرية وتواصل مسيرته التنموية واستثماره في القوى البشرية المؤهلة وفي المجالات كافة.

يُسجل ويُشهد لجلالة الملك الحسين قدرته وشجاعته وحكمته في إدارة دفة الأمور خلال فترة حكمه والتي استمرت حتى عام 1999 وانتقاله للرفيق الأعلى، ولم تكن مسيرة الحسين الراحل سهلة أبدا؛ استلام الحكم في سن مبكرة وفي خضم الأحداث من حوله وبما تشكله من أطماع وتوتر وتنازع، ورغم ذلك، استطاع الملك الشاب (وكما توسم فيه ذلك الملك عبد الله الأول) حينها وبصبر جميل على تخطي حواجز عديدة ليثبت أنه قادر بإيمانه والتفاف شعبه حوله، على أن الأردن يستحق مسيرة التنمية الشاملة وفي القطاعات كافة سواء في التعليم، الصحة، الشباب، الزراعة، والقطاعات الأخرى والتي رسمت خطط التنمية الخمسية الكثير من التوقعات والنتائج والتي أشرف عليها باهتمام وعناية سمو الأمير الحسن بن طلال وشيد من خلالها ميادين للفكر والتنمية ودون كلل وملل، وحتى الآن إلى جانب كوكبة من رجال الدولة الأوفياء للعرش الهاشمي.

باقتدار وهمة وعزم، تسلم جلالة الملك عبد الثاني، أمانة الحكم عام 1999 ووسط تحديات دقيقة؛ لم يكن فقدان الحسين سهلا، ولم يكن البديل سوى مواصلة مسيرة البناء والعطاء للأردن وشعبه، ولم تكن المسيرة المشرفة لحكمة وكياسة وحنكة جلالة الملك عبد الله الثاني، سوى البرهان على أن المملكة الأردنية الهاشمية هي العنوان والدار الأبية على مدى التحديات والصعاب والمنعطفات والمراحل والمحطات.

شواهد وثمار مسيرة الاستقلال عززها جلالة الملك عبد الله الثاني، وهو ابن أبيه وجده ورافع لواء النهضة والتنوير واستشراف المستقبل للأردن ومن خلال الاعتماد على تنمية الذات الأردنية على وجه الخصوص.

لم تكن مسيرة الاستقلال سوى مشرفة؛ حافظ جلالة الملك عبد الله الثاني على كسب التحدي والرهان؛ عام 1999، شارف الحزن والترقب على قسمات الأردن، ولكن الملك المعزز والشاب أيضا والعسكري دوما والديبلوماسي، كان بالمرصاد، وأخذ على عهده تجاوز جميع العقبات، فكانت المسيرة صامدة.

نتحدث عن تفاصيل الدولة الأردنية ومقوماتها القوية والتي وإن واجهت العقبات، لكنها تبقى شامخة على الرغم من جميع ما يحاك ويدبر لها، وذلك بفضل قيادتها الهاشمية ورجالها النشامى وشعبها الوفي وأجهزتها اليقظة ومؤسساتها العريقة.

مسيرة الاستقلال وهي الآن بعمر السنوات (76)، ما هي سوى رحلة من العطاء والبناء والتحدي؛ سوف يبقى الأردن ومن خلالها وبعون الله المملكة الرائدة بين سائر دول العالم مزدانة بالازدهار والتقدم والأمن والاستقرار.

نهدي سنوات وعمر الاستقلال لسيدنا جلالة الملك عبد الله الثاني، من شعبه ولنبض ما يتدفق في وجدانه وفاء بوفاء وتكريم بحفاوة وشموخ بتضحية وولاء بانتماء وعهد ووعد معك وبك نحن ماضون، بمسيرة ستبقى بك مولاي مشرفة ومشرقة ومضيئة.

عشت يا أردنا، حفظك الله سيدنا، بوركت شعبنا، عالية رايتنا، شامخة مسيرتنا.