خدمة الدفع الالكتروني
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

»القُبلة السوداء«.. من عمق الجراح يبرقُ الأمل

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
عبد الغني صدوق (ناقد جزائري)

عندما تكتبُ المرأة، تكنبُ برهافة حِسّ وثبات وذكاء، ومِن العجيب أنْ نجدَ نصًّا روائيًّا لامرأة يخلو مِن صفات كهذه. حتّى النصوص المَبنية على حُبَك العُنف، تخترقها لحظات لين وسلام، تُبدي حقيقة الفطرة لديها، تحرصُ على صناعة الجمال في كلّ شيء، وبأدّق التفاصيل، ترانا نعجز -نحن الرجال- عن إدراك ذرّات الجمال التي تحسّها في الأشياء وتصقلها بما أوتِيَتْ من عقل، حِلمٌ مودَع فيها خِلقةً، ينتج الإبداع في صوّره المختلفة؛ فلا غرابة.

لم تمضِ سوى دقائق مذْ انهمكتُ في «القُبلة السوداء» (وهي رواية للكاتبة الفلسطينية تغريد حبيب)، حتّى وجدتني مشدودًا إلى نصّ نديّ؛ فالمطر بلّل المكان الأوّل بما فيه مِن لوحات وقُماش، حدثَ هذا بفضل اللغة العربية البيضاء الواصلة لكل الأجناس..، فحين لقاء البطلة بأحد الأبطال الّذي عرفناه مدرّسًا سابقًا حينما سألها عن والدها، يأتي الجواب:

"بخير يا عم نعمان، لكنّه قلّما يخرجُ مِن البيت، يذهبُ أحيانًا إلى دار المُسنّين، يُحدّثنا دومًا عنك».

مِعمار سردي لطيف يتشكّلُ بسرعة، شملَ الجواب الاستقرار النفسي لوالد عبير، قلبٌ رحيم يزور أقرانه في دار المُسنّين، أخذَنا النّص إلى جوفه بنُشؤ أثاثه وشخوصه؛ الراوية والمرويّ عنها بين بطن صفحة وظهرها، ما معنى أن تُبنى الرواية بشخوص يُمارسون الفنون التجريدية؟

تتوعك الهويّات حين يتفاقم الشعور بالاغتراب، يستنجدون بالفُنون المُخفّفة للآلام، يتصادقون، يتواصلون؛ ليبثّوا همومهم لعلّهم يتطهّرون.

إنّ ترمّل المرأة في عُمر العطاء فراغ وقهر وجفاف، مهما كسَبَتْ من مادّة وأُحيطتْ بأهل وخِلّان، لا سيما إذا خلّفتْ أطفالًا يستحقّون العناية والرّعاية، تنتابها لحظات الضُعف بين الحين والحين، فتجيشُ مشاعرها -بعد سُبات- طالبة الحياة، ومِن حقّها ممارسة الحياة، لكن في إطارها الشرعي الجالب للسكينة لا الاضطراب، فهذه أعينٌ مُراقِبة وأخرى مسلوبة، وهناك ألسُنٌ مطلوقة وأنفُسٌ مكبوتة، هذا ما عاشته البطلة «عبير» في الرواية!

وإذا ما طرق القلب إنسانًا، فستحاول المقاومة حتّى تمنع نفسها من التعلّق، مُحافِظة على الوفاء للمتوفى، تنهزمُ فتبوح لفلذة كبدها باعتباره أحقّ الناس بالصحبة والمحبّة، قد يثور وقد يطمئن، تتحكّم في القرار الأعراف والأفكار وحتّى الحسابات الدنيوية في عصرٍ أصبح الكلام فيه مالًا، وعادتِ السكينة على محك الجهل أو الهَوى. فلمّا رأى «آدم» أمّه مرسومة قال متسائلًا:

"مُتقَنة جدًا كما لو أنّها صورة، ولكن لماذا يرسُمك؟».

القُبلة السوداء، سوداء لأنها تتركُ إحساسًا موجعًا بعد التوقيع مباشرة إذا أُخِذتْ بغير وجه حقّ، ولعلّها تتكرّر ويتكرّر معها الوَجع، مسجونة هي النّفس اللوّامة بين قضبانها، مأسورة في الصباح حرّة في المساء وهكذا دواليك..

وفي أفراح الأطفال، عندما يتراص الأولياء مع أبنائهم، يتجدّد الشوق لدى الأرامل، لوعة في القلب وسَرَحان في الماضي، يحملُ الطفل نصيبه منه فيتذوّق طعم اليُتم، ينضج قبل أقرانه فيفهمُ الصّعب مِن القول والعمل، إنّ الزّمن لمدرسةٌ يُمَحّنُ الأطفال والكِبار مقابل بُزوغ الأفكار ونقاء الوِجدان.

تظهرُ شُخوص هذه الرواية في أوقاتها المضبوطة، مُهّدتْ لها الطريق بالاشتغال على عرض الأحداث والحوار خطوة بخطوة، الملل مكسور والتشويق مطروح، واللّغة وضوح، يتغيّر مكان السّرد نتيجة السّفر إلى مصر، يتغيّر الإيقاع طواعية، يتصاعدُ زئبق الحبكة، يُسجَن المحبوب مقبوضًا، تسافر «عبير» لتطمئن، وفي بيت الوالد المحبوب يعيش أخوه الضّرير، هنا تتعقّد الأمور ليبلغ الصّراع مُنتهاه، وينفجرُ بركان القُبلة السوداء!

اقترنتِ الأحداث بزمن الوباء (كوفيد-19) إمّا متخيّلة وإمّا واقعة، أبرزَ العمل خطر الأوبئة المدفونة في صدر الإنسان وهو حيّ يمشي على الأرض، كما نبّهتْ إلى ضرورة الحبّ والعفو والتسامح في الحياة، كأدوية تشفي من جميع الأمراض النفسيّة والعضوية.

لقد نال الحوار نصيبه من العاميّة المصرية عند الشخوص المؤهلة لذلك، فتكلّمتْ بالتلقائية والعفوية ولم يعقْ لسانها تناغم اللّغة ولا سير الأحداث، وقد أثارتْ هذه القضيّة جدلًا واسعًا لدى النّقاد، والكاتب الكيّس هو الّذي يعرفُ كيف يتجاوز عقَبَتَها بسلام، لعلّها تحتاج إلى إمعان في اختيار الكلمات الأكثر إشاعة واستعمالًا.

"القُبلة السُوداء» (الآن نشرون وموزعون، 2021) من روائع ما كتَبتْ تغريد حبيب، شكلًا ومضمونًا وصيّاغة، رواية ستفتكّ حقّها بالتداول والتناول، لأنّها اهتمّت بقضيّة المرأة كإنسان يستطيع الإصلاح والتشييد والإبداع.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF