كتاب

تسوية المنازعات الدولية بين السياسة والقانون (2)

لقد تحدثنا في المقال السابق عن تسوية النزاعات الحدودية والإقليمية الدولية, وفقاً للقانون الدولي. وفي هذا المقام سوف نستكمل حديثنا عن الشق السياسي, وسوف نأخذ النزاع الروسي الأوكراني نموذجا لذلك. فعندما يعجز المجتمع الدولي عن اتخاذ عقوبات قانونية بحق دولة ما, لتمتعها بالنفوذ الذي يمكنها من تعطيل الأدوات القانونية, لإصدار قرار دولي يدين أو يحاسب تلك الدولة, فتلجأ الدول بإرادتها المنفردة إلى فرض (العقوبات الاقتصادية) سنداً لما يسمى (أعمال السيادة) التي تبيح للدولة اتخاذ أية إجراءات غير عسكرية, دون الحاجة لموا?قة مجلس الأمن الدولي, كما تفعل الآن الولايات المتحدة مع إيران بموضوع المفاعلات النووية.

وبالعودة إلى النزاع الروسي الأوكراني, ولفهم أكثر لأوراق الضغط التي يمتلكها طرفا النزاع, فلا بد من توضيح بعض الحقائق: لقد قام الروس بعد الحرب العالمية الثانية, بتوطين أعداد كبيرة من المواطنين الروس في المدن الحدودية الشرقية لأوكرانيا في (شبه جزيرة القرم), حتى أصبحوا يشكلون أغلبية سكان المنطقة.. حتى وقت قريب استطاعت روسيا أيضاً السيطرة على النظام السياسي لهذه الدولة، وعندما بدأت تشعر بتغول النفوذ الأميركي الأوروبي في هذه الدولة, قامت بدعم الانفصاليين وبمساعدة من القوات الروسية, بغزو عسكري لشبه جزيرة القرم عا? 2014 وإجراء استفتاء بها لإعلان انفصالها عن أوكرانيا, ولقد تمكن الروس من جعل أوكرانيا تعتمد عليها اقتصادياً بشكل كبير, لا سيما في مجال الطاقة, لكونها تستفيد من أنابيب خطوط الغاز الذي يصدر لأوروبا عبر أراضيها.

وفي هذا السياق يعلم الروس مدى اعتماد الدول الغربية على هذا الغاز, وأن أي بدائل لإمدادها من مصدر آخر, سوف يكون غير متاح و مكلف مادياً. ومن جهة أخرى يعلم الروس أن أوروبا أقحمت بهذا الصراع بضغط من قبل الولايات المتحدة غير المتضررة اقتصادياً أو سياسياً من هذا النزاع, والتي تسعى منذ فترة الى إعادة ترتيب الأوضاع الجيوسياسية الدولية (النفوذ الإقليمي الجغرافي الدولي) بما يخدمها في صراعها السياسي والاقتصادي مع روسيا والصين,وتعتبر روسيا أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية هي من أخلت بالاتفاق الضمني لما يسمى?بالتوازن الإستراتيجي العسكري, وتهديد الأمن القومي الروسي. لذا فهي ترفض أي شكل من أشكال التواجد لحلف الناتو على الحدود الروسية, وتحت أي مسمى وأن تذرع أميركا وأوروبا بأن قرار انضمام أوكرانيا يعتبر عملا من أعمال السيادة للدولة غير مقبول وأنها كلمة حق أريد بها باطل, لذلك فإن روسيا رفضت جميع المساعي الدبلوماسية, التي من شأنها إيجاد حلول وسط ترضي جميع الأطراف, رغم كل التهديدات بالعقوبات الاقتصادية. بل إن روسيا نفذت تهديداتها العسكرية بغزوها أوكرانيا وأعلنت اعترافها بقرار الانفصاليين الذين يخوضون حرباً بالوكالة إ?ى جانب القوات الروسية والاعتراف باستقلال مدينتي (دينستك ولوغانسك), وهي تعلم مسبقاً أن مجلس الأمن, لن يستطيع اتخاذ أي قرار بهذا الخصوص لأنها سوف تجهضه باستخدامها حق النقض (الفيتو) وهذا ما فعلته. أما موضوع الاعتراف بالجمهوريتين, فهو عمل من أعمال السيادة, يحق لكل دولة أن تقبله أو ترفضه بصفة منفردة وللحديث بقية.

مستشار قانوني