كتاب

من وحي المئوية 44 الكرامة الاقتصادية من الكرامة الإنسانية

ورد في انجيل «متى» وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله». وفي انجيل لوقا فأجابه يسوع قائلاً. «مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل كلمة من الله». ولو تصفحت الاقتباسات في العهدين القديم والجديد من الانجيل، ستجد انها تدور حول كرامة الإنسان.

وفي القرآن كثير من الآيات التي تؤكد كرامة الانسان، فمنها المباشر مثل » ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الاسراء: 70). والذي سخر الأنعام للناس ليأكلوا منها ويركبوها لتنقلهم، وسخر لهم ثروات الأرض، » وألنا له الحديد»، وأن الانسان مخلوق كريم خلق له من نفسه «أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة». واحترام الحقوق «ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالاثم وانتم تعلمون».(البقرة:188) ومن ثم هناك العقاب والقصاص » ولكم في القصاص حياة يا اولي الألباب، لعلكم تتقون».

وقد كُتب الكثير عن هذا الموضوع، ولكن من كان يريد تلخيصاً له فليرجع إلى مدونة «تقرير كرامة الانسان في القرآن الكريم» من تأليف الدكتور «علي الصلابي» المؤرخ والفقيه الليبي، والتي نشرت في شهر أيار(مايو) من العام 2020.

ولقد استدعى انتباهي عدد من الدراسات التي تصدرها مراكز البحوث الإسلامية في الجامعات الأمريكية. ولعل أكثرها اثاره بحث عن أي الدول كان أكثر تطبيقاً للاسلام من بين دول العالم. واختار الباحثان من جامعتي هارفارد وجورج واشنطن ثلاثة معايير منها العدل، والكرامة، والأمن. وقسموا ذلك إلى معايير قابلة للقياس. ووجدوا في نهاية المطاف أن أكثر الدول تطبيقاً لمبادئ الإسلام لم تكن دولاً إسلامية، وقد جاءت نيوزلندا الرقم الأول، ومن بعدها كندا. وأول دولة إسلامية جاء ترتيبها الثانية والثلاثين هي ماليزيا، وأول دولة عربية هي الكويت وكانت الثالثة والستين. ومع أن لي بعض التحفظات على تلك الدراسة إلا أنني اعتقد ان المؤلفين (وهما إيراني وبنغلاديشية) قد حددا تعريف مفاهيم الكرامة في مفاهيم العدل، والأمن، والايمان.

وقد نشرت صحيفة » جوردان نيوز» يوم الثلاثاء الموافق 2/2/2021 مراجعة مختصرة لكتاب صدر هذا العام في الولايات المتحدة عن دار «بينيغوين/ راندوم هاوس» (Penguin/ Random House). ومن وضع الاقتصادي «جين سبيرلنغ» «Gene Sperling» بعنوان » الكرامة الاقتصادية». وفيه يؤكد الكاتب أن المعايير الاقتصادية مثل الناتج المحلي الإجمالي ومعدل دخل الفرد وغيرها من المقاييس المادية ليست كافية لاقناع الناس بأن حياتهم جيدة، وأن نوعية تلك الحياة ترقى إلى تطلعاتهم. وأضاف المؤلف (Sperling) معايير أخرى لا تقل أهمية، وهي: القدرة على رعاية الأسرة بدون الخوف من الحرمان الذي ينكر على الانسان القدرة على التمتع بالحياة الأسرية، الحرية في السعي للوصول إلى تطلعات الانسان وهدفه ومنها توفر الفرصة الأولى والثانية لتحقيق ذلك. وثالثها المشاركة الاقتصادية في مناخ من الاحترام وعدم الاذلال.

وقد اشتريت الكتاب، وقرأته، والحقيقة أنه أسعدني، كما أسعد الآلاف الذين قرأوه. وقد كان المؤلف (Sperling) قد عمل كبير المستشارين الاقتصاديين ورئيس المجلس الاقتصادي القومي في إدارة الرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما الديمقراطيين. وهو الوحيد الذي احتل هذا المنصب لرئيسين من رؤساء الولايات المتحدة.

وقلت في نفسي أن في أعماق هذا الاقتصادي الأمريكي مسحة من تَدَيُّن عميق، ربما تكون أعمق مما يدركها هو. وبصفتي اقتصادياً. ودرست في الولايات المتحدة، وعملت في الحياة العامة سنوات طويلة مع الأمير الحسن ما يقارب الثلاثين عاماً، وأكثر، ومع الملك العظيم الراحل الحسين بن طلال ما يقارب ربع قرن، ومع كثير من رؤساء الوزراء الأردنيين ومع الملك المعزز عبدالله الثاني. ففي هذه السنوات ما يقيم الدليل على أن الأردن طبق تجليات الكرامة الاقتصادية إلى الحد الممكن. وخطابات الحسين العظيم والملك المعزز عبدالله الثاني والأمير الحسن بن طلال وتصريحاتهم وأفعالهم، ما يؤيد مفهوم الكرامة وتطبيقاتها المختلفة.

عندما وَدَّع الأمير عبدالله أهالي معان في أوائل عام 1921، ألقى على مودعيه كلمة قال فيها:

» انني الآن مودعكم، وأود ألا أرى بينكم من يعتزي إلى اقليمه الجغرافي، بل أحب أن أرى كلا منكم ينتسب إلى تلك الجزيرة التي نشأنا فيها، وخرجنا منها، والبلاد العربية كافة هي ملاذ كل عربي»، وهو بذلك يؤكد الجغرافيا العربية الكاملة موطناً لكل عربي. وفي هذا تحقيق لكرامة العرب. وجميل أن يعود الباحث هنا إلى دراسة الدكتور » محمد سعيد» صلاح العثامنة من جامعة الحسين بن طلال بعنوان » إنجازات الأمير عبدالله بن الحسين الأول في إمارة شرق الأردن الداخلية والخارجية».

وقد اهتم الملك عبدالله الأول بقطاعات التربية والصحة والزراعة مؤكداً على أن حقوق الانسان هي حياة معرفية وصحية سليمة وهي الشرط الأساسي المكمل لحياته الاقتصادية. ولو عدنا إلى كتاب » الكرامة الاقتصادية»، فإن المؤلف يحتج احتجاجاً شديداً على من يقولون أن توفير الأمن الصحي للمواطن يأتي على حساب الاقتصاد، بل يؤكد على أن القطاع الصحي هو شرط للكرامة الاقتصادية للمواطن، وبدونها لا تتوفر للاقتصاد شروط الدوام والاستمرارية. وقد يبدو القطاع الصحي أو التربوي مكلفاً. ولكنه في نهاية المطاف يصبح قطاعاً اقتصادياً مساهماً بشكل مربح في الناتج المحلي الإجمالي.

وكذلك تصميم الملك عبدالله الأول على بناء المدارس، وتوسيع قاعدة التعليم، والخروج من حالات الجهل والبطالة إلى الإنتاج المرتبط بالأرض. وقد كان رحمه الله يدرك تمام الادراك العلاقة بين العلم من ناحية، والإنتاج من ناحية أخرى.

أما الملك الحسين الباني فلعلنا وبكل سهولة ويسر ندرك مواقفه حين كان يقول » الانسان أغلى ما نملك». ومن عرف الرجل عن قرب يدرك أنه لم يكن يتسامح مع أحد يعتقد أن قربه من الملك يعطيه الحق في التطاول على الناس.

الدستور الأردني للعام 1952، والموضوع في عهد الملك طلال جعل كل هدف إدارة الاقتصاد هو خلق فرص العمل، والمُنتج منها على وجه الخصوص. وهذا ادراك عميق لأهم حق للإنسان. والقانون الأساس الذي وضع عام 1928 أعطى الأردنيين حق حرية العمل والابداع فيه والانطلاق به داخلياً وخارجياً، لأن في ذلك تحقيقاً للكرامة الاقتصادية وخلقاً لفرص العمل، والأمن والأمان كما ذكرّنا الله بها في سورة قريش » فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» وقذ اهتم الحسين، ومعه الأمير الحسن بن طلال بالتخطيط الاقتصادي المتوازن، والذي يسعى لرفعة المواطن بغض النظر عن أصله أو منبته، ودينه أو عرقه، أو لونه، أو مركزه، مكان عيشه في القرية أم في البادية أم في المدينة، فالتنمية يجب أن تكون بمشاركة الجميع وملك للجميع، واحترام حقوق غير الممكنين جسدياً أو عقلياً أو مهنياً كان باستمرار موضع رعاية ومتابعة، حتى يضمن لهم حقوقهم.

وفي عهد الحسين نادى الأمير الحسن، واثنى الراحل الحسين العظيم على ذلك، بانشاء صندوق عالمي للزكاة لكي تكون وسيلة لمساعدة البشر من المحتاجين، والإسلام لا يمكن أن يقبل أن يأخذ الضرائب من الناس سواء كانت جزية أم خراجاً أم رسماً لانه يقدم لهم مقابل ذلك منافع ومصادر عيش تحفظ لهم حرياتهم.

ولم يشهد الحكم الهاشمي حرماناً لحرية العيش والرزق ضد المواطنين إلا لأسباب أمنية. وقد أُسيء استخدام هذه الوسيله أحياناً، وفي ظروف الفتنة، ولكنها اختصرت على التوظيف الحكومي في المواقع الحساسة، فلا يمكن أن تسمح لأحد بأن يُعيَّن في موقع يمكن أن يستغله ليعمل ضد الدولة التي توظف هذا الشخص في حكومتها ومؤسساتها الرسمية، ولكن برزت حالات استخدم فيها هذا الحق كوسيلة للتمييز بين المراطنين، وهو أمر بدأ يتلاشى، ولكن الحالات التي جرى فيها التوسع في تطبيق هذا الأمر لأغراض شخصية أو تلبية لضغوطات الأهل وذوي القربى أو الناخبين كلفت هذا البلد تراجعاً واضحاً في إدارته، حيث أضحى ولاء المعنيين بهذه الطرق لمن يتوسط لهم، وليس للمؤسسة التي تدفع له راتبه.

ولكن بغض النظر عن بعض الأخطاء التي ارتكبت، إلا أن الأردن بأجهزته الأمنية والعسكرية المتميزة والثقة بالمرجعية الملكية وعدالتها هي التي مكنت المواطن الأردني أن يشعربالاطمئنان أنه يعيش في بلد آمن رغم كل ما جرى للأردن من تشويش على أمنه واستقراره، وما يزال. ولعل حصول الأردن على جغرافيته الحالية في مؤتمر أم قيس هو الذي ساهم في تلك الضغوط عليه، إذ جعله محاطاً بدول أكثر منه قوة وغنى وموارد فظنوا أنه ساحة خلفية لهم يلعبون فيها كيفما يشاؤون خاصة في عقود الانقلابات السياسية والحروب الداخلية، وزمن السعي للتوسع على حساب الآخرين.

وقد ساهمت كل هذه الظروف في عدم السماح للأردن بأن يمنح مواطنيه كامل حقوقهم في حرية العمل السياسي، والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية وقراراتها. ومع هذا، فلم يبخل ملوك بني هاشم في الوقت المناسب أن يقدموا للناس فرصاً ثمينة لممارسة هذه الحقوق. وقد فعل ذلك الملك الحسين عام 1989، ولكن الظرف الاقتصادي، وظرف المفاوضات السلمية وأزمة الخليج وحربها الأولى واضعاف العراق لم تسمح بتعميق تجربة الإصلاح السياسي تلك. ولكن في كل تلك الظروف، بقي ملوك بني هاشم مصدراً للأمن والانصاف للشعب الأردني. فهم يحمون الضعيف، ويقدمون للمحتاج، ويعالجون المريض، ويبذلون ما يستطيعون من نصره.

ولما كتب الملك عبدالله الثاني أوراقه النقاشيه السبعة، فإنها قامت على فهم عميق للتغيير الذي كان يفتعل تحت الثرى، وبدأ بالتدريج يخرج إلى السطح. فالناس لا يحيون بالخبز وحده، ولهم كمواطنين آمال وتطلعات في الحياة الكريمة، والمشاركة السياسية وفي صنع القرار، وفي متابعة ركب الحياة السريع في العالم كله، وفهم تماماً دوافع التحركات الشعبية أيام ما سمي بالربيع العربي.

وادرك الملك عبدالله الثاني المعزز أن الغريزة للبقاء تتجاوز حدود توفير الخبز والماء، بل تتجاوز ذلك إلى بناء العزة والكرامة الإنسانية التي توحد الناس على مبادئ ومشتركات تجمعهم معاً، وتحسن من قدرتهم على الاستجابة للتحديات الخارجية.

وأدرك كذلك أن الخيارات الاقتصادية القادمة في القرن الثاني من عمر هذه الدولة الأردنية الفتية لن تكون بسهولة القرارات السابقة التي اتخذت في القرن الأول من عمر الدولة، الآن مطلوب جهود أكبر وبنوعية أفضل وبصبر أطول حتى نحافظ على معدل نمو معقول. والخيار لهذا المشروع أو ذاك صار مهماً، لأن اختيار أي منهما ستكون كلفته ضياع فرصة تنفيذ الآخر. كما أن خيارات زيادة المياه، وتوفير الطاقة، والحفاظ على البيئة، ومنح الأولويات للقطاعات تتطلب إدارة علمية تقوم على المعلومات والقدرة على تحليلها واستنباط الحلول الأفضل.

وصار واضحاً أن إدارة الموارد البشرية والطبيعية والمالية أمرُّملحُّ لا مجال للهدر والضياع فيه، وكل قرش يضيع هباء يصبح استبداله أغلى ثمناً.

فمن الذي يحدد الخيارات؟ هل هو الوزير القطاعي، أم مستشارو جلالة الملك؟ أم أن الشعب الذي سيدفع ثمن هذه الخيارات هو الذي يجب أن يقرر فيها؟ وهل سيصل الناس إلى اتفاق على الأولويات التي ستحدد من المستفيد من ذلك الخيار أو الخاسر منه؟ وهل سنرضى في غياب الاتفاق الكامل باتفاق الأكثرية ولو كان ابسطها 50%+ واحد؟

الحل الصعب الذي يرضي الناس هو أن تعطي الناس من خلال تنظيماتهم الحزبية وترتيباتهم المجتمعية حرية اختيار من يعتقدون أنه يعبر عن آرائهم. وبهذا الحل فإن الزمان كفيل بجعل مجلس النواب ممثلاً لكل الناس بمختلف ارائهم، وهنالك البورصة للآراء، حيث تختار الأغلبية المسار الاقتصادي الذي ترى أنه يخدم غالبيتهم.

هذا ما يريده الملك عبدالله الثاني من كرامة اقتصادية للناس لا تتحقق إلا إذا أمنوا حياة أسرهم، ومارسوا قدراتهم وشاركوا في وضع القرار الذي يمس حياتهم ومستقبلهم. أمامنا شوط مع عبدالله الثاني، الملك المعزز، وإن حققناه ظفرنا مع أبي الحسين وبه.