كتاب

عتب..

للتو شاهدت تسجيلاً عن مطرب يدخل المسرح الجنوبي في جرش, محمولا على الأكتاف... كنت أظن أن هذا الأمر هو مجرد جزء من استعراض غنائي يقوم بتأديته.. لكن القصة غير ذلك تماما, يا ترى لو غنى هذا الفنان في دار الأوبرا المصرية فهل سيسمحون له بفعل الأمر الذي فعله في جرش..؟

القصة ليست بحمله على الأكتاف فقط، ولكنها بمجموعة من الراقصات معه, يقمن بتأدية رقصة على أغانيه.. مع أزياء كلاسيكية وتدل على الحقبة الرومانية, وهذا الشكل من الأغاني السريعة لا يحتاج لهذا النمط من الاستعراض... بمعنى آخر لا الرقص يتناسب مع الأغاني.. ولا المسرح يتسع لهذا الشكل.. والأمر الآخر أن ما أعلن عنه المهرجان هو حفلة, وليس استعراضا غنائيا...

يبدو أن هنالك التباسا بين مفهوم الاستعراض الغنائي ومفهوم الأغنية... على كل حال سنمرر الأمر... ولكن ما يؤرقني في المشهد أحيانا هو أننا دائما نظن أن النجومية في العالم العربي وحده، ونحن نفتقر لها.. وتلك قراءة رسخت في المشهد الثقافي الأردني منذ عشرات السنين.. بل أصبحت رسمية أكثر منها شعبية...

ألم ننتج نحن الأردنيين أهم الشعراء في الخارطة العربية الان، وهم حبيب الزيودي وحيدر محمود.... في الوقت الذي أنتجت فيه مصر أمل دنقل، كان حيدر يتفوق عليه في المفردة الشعرية والصورة وحجم البلاغة، ولكن لأن أمل كان معارضا.. ولأن صوت المعارضة أعلى أخذ مساحات أكبر... ألم ننتج في السبعينيات اسماعيل خضر، والذي تفوق بحنجرته على علي الحجار وهاني شاكر.. ولكن اسماعيل مات في النهاية عفيفا.. مظلوما من دون دخل أو دعم من الحكومة, اسماعيل لم يجد ماكنة إعلامية تروجه.. ولم يجد مؤسسة تعيد انتاجه..

ألم ننتج خالد الكركي, أهم من كتب نصا متفوقا.. خالد أعاد إحياء المتنبي في اللغة, وصنع من بلاغة النثر ما هو أعلى من بلاغة القصيدة, ولكن خالد لم يجد ترويجا.. ولا دعما رسميا لهذا انحاز للتدريس والسياسة، ولكن يسجل له أنه أصدق من عشق المتنبي.. وعشاق المتنبي كثر..

ألم ننتج نصرت عبدالرحمن, مؤسس نظريات النقد ومناهجه.. وكتب نصرت–رحمه الله–تدرس في العالم العربي.. ألم ننتج أيضا الأخوين ياغي, سادة الأدب العربي...

وفي التاريخ أنتجنا رئيس اتحاد المؤرخين العرب د. محمد عدنان البخيت.. أنتجنا علي محافظة.. أنتجنا هند أبو الشعر, ما زالت مؤلفاتهم تمثل منهجا، لقراء التاريخ وكتابته..

نحن كبار جدا.. لماذا نصغر أكتافنا إلى هذا الحد, وجرش التي عمرها آلاف السنين.. بمسرحها الجنوبي تبدأ مع محمد عبده, ونجاة, وعمالقة الفن.. وتنتهي بشاب أول مرة اسمع باسمه يدخلها فاتحا على عرش من الخشب ومحمولا على الأكتاف... إذا كانت الحجارة ترفض ذلك فكيف يقبله البشر.

هذا الوطن لم يولد صغيرا, وأهله لم يكونوا صغارا... الوطن الذي أنتج تيسير السبول وعرار... وأنتج من الأغاني طلقات وقذائف تقاتل إلى جانب جيشه, هو كبير وكبير جدا..

نحن سادة العرب.. ولم نكن يوما صغارهم، ولم نكن يوما في اخر الصفوف ولا حتى وسطها.. لهذا ما حدث هو عيب وعار.. هو امتهان لتاريخ, وذائقة شعب كامل.

على كل حال رحم الله أيام أكرم مصاروة, فقد كان قارئا للتاريخ.. ويعرف كيف يجعل التاريخ يلوي شعفته على حجارة جرش.

Abdelhadi18@yahoo.com