.. أريد الكتابة عن مواطن عادي جداً مثلنا، قرر الرحيل عن الحياة.. وهذا المواطن لم يكن مسؤولاً في الدولة، ولم يمتلك شركات كبرى، لم يدخل مجلس النواب ولا مجلس الأعيان.. لكنه دخل القلب، صدقوني أن القلب في الأردن أهم من المناصب والألقاب، أهم من الكراسي والدولارات..
سيف عربيات، السلطي في النشأة والهوية والدم.. كان أطولنا قامة، وإن دخل من باب منزل هي الأبواب من تخفض رأسها، هل رأيتم بابا يخفض رأسه؟...
في حالة سيف نعم الأبواب كانت تفعلها، لم يكن أطولنا قامة فقط ولكنه كان أطولنا خلقا وهيبة أيضا.. وهذا الرجل حين قرر الرحيل اليوم–لحظة كتابة هذا المقال -.. بكت عليه السلط كلها، فهي تعرفه.. المقاهي تعرفه وعتبات البيوت، والوردات اللواتي نبتن في آخر الشتاء عجرفة على برد الجبال تعرفه أيضا، (والعيزرية) تعرفه.. والأطفال إن مر بشارع يعرفونه، والأهم أن المدينة تعرفه جيدا.. وتحفظ قسمات وجهه، وسيكون تراب السلط حنونا عليه.. سيكون حنونا أكثر، لأن سيف أحب هذا التراب وأخلص له، كان وفيا إلى الحد الذي سرت فيه السلط مع الدم في الوريد.. هو الوحيد ربما إن نزف... وجدت السلط في وريده دماً.
أنا لا أتحدث عن صديق وأخ أوجعني رحيله، بل اتحدث عن قائد اجتماعي حقيقي.. صنع لنفسه مكانا في المجتمع، وحظي بالحضور والهيبة، ولم تصنعه مكاتب الدولة ولا قرارات المؤسسات، لم تصنعه الأوراق المذيلة بالتواقيع.. لم تصنعه أيضا علاقات الشركات والنسب، هو صنع نفسه.. وحقق حضورا اجتماعيا.. وحين كانت تعجز المؤسسات عن حل مشاكل الناس، كان هو من يقوم بحلها اعتمادا على ما يحظى به من حضور في المجتمع..
ترك حياة مدججة بالتمرد والحب، نعم كان متمردا على اللحظة وعلى كل مشهد فيه من التصنع ما فيه، كان متمردا على الزيف والقلق، وأرخى اللجام.. ولم يأبه بالميادين الوعرة، خاض كل الدروب المليئة بالشوك والقلق.. ألا يستحق إذاً أن يكون نجما في مقالاتنا.. بل يستحق ويستحق ويستحق.
كن حنونا عليه يا تراب السلط، وبلل أكفه الجميلة بالندى، ودع الوردات تنبت على حواف قبره.. أريدها أن تنبت وحدها دون قلق أو خوف من الريح، واترك (للحساسين) مساحات في الصباح كي تطلق زقزقاتها.. وحدثه يا تراب كل يوم عن السلط، عن المقاهي والناس.. عن الصبية الذين التحفوا صبرهم وصعدوا معارج الحياة دون تردد أو خوف، قل له أيضا: إن الناس لا تسكن الجبال في السلط بل هي الجبال من تسكن تلك النفوس الأبية.. والأنوف الشم..
كن حنونا عليه يا تراب، فقد رحل سيف الرجل الطويل.. الذي كان حين يدخل من باب هي الأبواب من تنحني له، ولم يخفض الرأس بتاتا..
رحمه الله..
abdelhadi18@yahoo.com
مواضيع ذات صلة