كتب: حسين دعسة
لما لانت مهجتي قصيدة مريد البرغوثي» الروض العاطر»، تذكرت كل ما جادت به رضوى عاشور صاحبة الطنطورية وثلاثية غرناطة،ولما دنا قطاف اللوعة كان الحضور البهي لتميم ومريد ولتلك الاجنحة التي تبعناها ونحن على اصفرار الزغب البريء!
..ولعمرك يرقبنا «المريد» فيسمعنا نردد ما في كنوز الروض العاطر:
قالت لى السيدة المجربة:
ثمرات التين، قشّرها
عناقيد العنب، المسها بشفتيك أولا
القهوة، خذها ساخنة
الزوابع، دع وقارك جانبا
وهى تلوب وتصيح
الزيارة، اجعلها مرحة
الشمس، اقترب منها بمقدار
وابتعد بمقدار
القصيدة، لا تنزعج من غموضها
اللوحة، لا تدقق كثيرا فى تفاصيلها
المسرحية، لا تغادرها قبل النهاية
الكلمة، لا تحاول استعادتها إذا ذهبت
المرأة، اصنع معها ذلك كله.
..وكأني جاد سمعي، ننصت معا انا والذكريات لما قالت الرئيسة التنفيذية لمؤسسة شومان، فالنتينا قسيسية :
هذا مساء الشعر والموسيقا والحب والدفء والوفاء.
وهذا مساء رضوى الحاضرة بيننا، ترفرف روحُها في الفضاء اللامتناهي.
معنا مريد وتميم، ومعنا الشعر والموسيقا.. ورضوى. ومعاندة الغياب.
هي رحلة الوفاء من زوجٍ وابن طبعت الراحلة حياتهما بالمحبة.
هي لحظة صدق، حيث يعترفان أن جميع الطرق تؤدي إليها.
وإليها تنتهي الأشعارُ والمدائحُ وموشحات الحب.
وأيضا،-تعلي الروح قسيسية:
هي لحظة حب من طرفنا، نحن في مؤسسة عبدالحميد شومان، فلها دائما سنفرد ركنا دافئاً نملأه بأثرها الطيب وإبداعاتها الكثيرة.
إذن، هذا مساء الشعر والحب.
هذا مساء عود عمر عياد..
وقانون رولا البرغوثي
لكي يسهما في سدّ رمق أرواحنا المتعطشة للفن والجمال.
وهذا مساء «لكل المقهورين أجنحة»...
هذا مساء رضوى عاشور.. بلا منازع.
..وفي لحظات غاب الجمهور يرقب ليلة أدبية استثنائية وغير عادية، انحازت للجمال والحرية ودفق الحياة، قادها الشاعران مريد وتميم البرغوثي، أمس الإثنين، في قصر الثقافة بمدينة الحسين للشباب، وسط حضور عماني لافت.
وقدم الشاعران البرغوثي في الأمسية التي نظمتها مؤسسة عبد الحميد شومان بصحبة الموسيقيين عمر عيّاد (عود) ورلى البرغوثي (قانون)، باقة متنوعة من القصائد المختارة.
وقرأ الشاعر مريد البرغوثي في الأمسية مقتطفاً من كتاب «لكل المقهورين أجنحة» للراحلة عاشور بعنوان «قانا»، كما قرأ قصائد عدة «لا مشكلة لديّ، يد صغيرة عارية، صندوق جدتي، منتصف الليل، الروض العاطر، ولدان يصعدان جبلاً، لي قارب في البحر»،بحسب بيان ورد
لـ «آخر الاسبوع» من المؤسسة.
واستفتح الشاعر مريد البرغوثي الأمسية بقراءة مقتطف من كتاب «لكل المقهورين أجنحة» للراحلة عاشور بعنوان «قانا»، يقول النص: «هل تذكرين عمر في دير ياسين؟ كان ابن عامين، في نفس عمرك يا رضوى، ولكنه ذهب وبقيت، لتتعلمي في المدارس وتعلمي وتنشئي أسرة وتكتبي وتبلغي الستين، ذهب وبقيت، ربما لتذكريه».
الشاعر «الابن» تميم البرغوثي بدأ قراءاته، هو الاخر، بمقتطف من الكتاب الذي يقول: «حكاية لكل أبناء الرب أجنحة» من الحكايات المشهورة في التراث الشعبي الافريقي- الأمريكي، وهو تراث زاخر، أنتجه الأفارقة من موقعهم المستجد في عالم حملوا إليه قسرا، ليبدأوا فيه حياتهم على خشبة المزاد، ومنها إلى المزارع للعمل سخرة تحت تهديد السياط». كما قرأ قصائد متنوعة، وهي «أتوضأ من قبل الكتابة وأسمي، الطلل، الفرح، عرس، في القدس، جبال الصدى، عشقة».
واختتم الشاعران الحفل بتوقيع كتاب الراحلة المصرية رضوى عاشور «لكل المقهورين أجنحة: الأستاذة تتكلم»، والذي يعد «استكمالاً لدرجات الضوء القادم من شخصية رضوى؛ الضوء القادم من معارضتها الشجاعة وتصديها المبكّر لممارسات سياسية وأكاديمية واجتماعية لم تسكت عنها يوماً»، وفق ما جاء على غلافه.
وفي الكتاب أيضا، أضواء عديدة تشع من مقاومة رضوى المبكرة للتطبيع قبل أن يلتفت الكثيرون لمخاطره، ومن بوحها الشخصي عن بواعثها للكتابة وعلاقتها باللغة العربية تراثاً وجمالاً، بل وإعادة تعريفها لا لفن الرواية فحسب بل وللتاريخ أيضاً.
يذكر أن مريد البرغوثي تنقل وعمل في أماكن عديدة (القاهرة وعمان والمجر)، وتزوج الروائية المصرية رضوى عاشور. صدر له العديد من الدواوين الشعرية منها: «الطوفان وإعادة التكوين»، «فلسطيني في الشمس»، «نشيد للفقر المسلح»، «الأرض تنشر أسرارها»، «قصائد الرصيف»، «طال الشتات»، «رنة الإبرة»، «الناس في ليلهم»، «زهر الرمان»، «منتصف الليل»، «الحب غابة أم حديقة»، «استيقظ كي تحلم». وفي مجال النثر صدر له: «رأيت رام الله»، «وُلدت هناك، ولدت هنا».
أما تميم البرغوثي فقد ولد في القاهرة. له 6 دواوين باللغة العربية هي «ميجنا، المنظر، قالوا لي بتحب مصر، مقام عراق، في القدس، يا مصر هانت».وعمل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة برلين الحرة وجامعة جورجتاون بواشنطن والجامعة الأمريكية بالقاهرة ودبلوماسيا بالأمم المتحدة.
في هذا الكتاب ما يمكن أن يكون استكمالاً لدرجات الضوء القادم من شخصية رضوى عاشور. إنه الضوء القادم من معارضتها الشجاعة للأوضاع الضاغطة على مصر وعلى الجامعات المصرية وتصديها المبكّر لممارسات سياسية وأكاديمية واجتماعية لم تسكت عنها يوماً حتى وهي في العمر الساري بين الطفولة والشباب. والضوء القادم من مقاومتها المبكرة للتطبيع قبل أن يلتفت الكثيرون لمخاطره. والضوء القادم من بوح شخصي عن بواعثها للكتابة وعلاقتها باللغة العربية تراثاً وجمالاً. والضوء القادم من مساءلتها لتجربتها الروائية وإعادة تعريفها لا لفن الرواية فحسب بل وللتاريخ أيضاً، حتى لا يستسهل أحد بعد اليوم التورط في كليشيه «الرواية التاريخية» بتبسيط لا يليق. والضوء المطل من اشتباكها مع النظريات الإبداعية والنقدية.
بقراءة هذا الكتاب تتضح صورة رضوى عاشور في أدق تفاصيل نُبلها وروعةِ تنوّعِها. هذا جَمالٌ ضد القبح. وكما قال رفيق عمرها الشاعر مريد البرغوثي:
ابتسامتُها رأْي، ومَوضعُ خطوتِها رأْي، وعنادُ قلبِها رأي، وعُزْلَتُها عن ثقافةِ السوقِ رأي.رضوى جَمال رأيها ورأيُها جَمالُها».
73 عاما.. الغياب المر
صادفت ذكرى الـ73 لميلاد الأديبة والروائية المصرية رضوى عاشور (1946 - 2014). العام الماضي،و احتفى محرك البحث الأشهر «غوغل» بميلادها،،وكان الشاعر مريد البرغوثي، عن جمعه مع نجله تميم، كتاباً أطلق عليه تسمية «لكل المقهورين أجنحة» يجمع كل مقالاتها في الأدب والنقد والسياسة والتعليم. وفي تغريدة له على حسابه على تويتر، قال مريد إنه أرسل الكتاب الى «دار الشروق» في القاهرة، بعد جمعه إرث صاحبة «ثلاثية غرناطة» طوال عام. التغريدة التي كشفت عن الكتاب، ضمنها الشاعر الفلسطيني، بكلام وجداني عن الراحلة، متوجهاً لها بالقول: «نحن مقهورون يا رضوى، أوطان تقيم في المقابر والسجون والمنافي، وكم نحن بحاجة إلى أجنحة. أنتِ معي لكني أقول لك: تعالي». يذكر أن عاشور صاحبة سيرة واسعة في الأدب والنقد، حظيت بحفاوة عالية من النقاد والقراء، منذ باكورتها «أيام طالبة مصرية في أميركا» (1983)، لما اشتملت عليه انتاجاتها من علاقة مشتبكة مع تغيرات الواقع والتاريخ والثقافة والسياسة.
رضوى عاشور
لطالما كانت رضوى عاشور صوتًا قويًا بين الكتّاب المصريين في جيل ما بعد الحرب وعرفت بكونها كاتبة شجاعة واستثنائية. تقاطعت أعمالها باستمرار مع تاريخ بلدها وانعكست بشغف تجاهه. حيث قالت في مقال لمختارات «الرؤية من الداخل» (1994): «لأني أشعر بالخوف من الموت الذي يتربص وما أعنيه هنا ليس الموت في نهاية المطاف فحسب، ولكني أعني أيضًا الموت بأقنعته العديدة.. أعني الوأد.. أنا امرأة عربية ومواطنة من العالم الثالث وتراثي في الحالتين تراث المؤودة، أعي هذه الحقيقة حتى العظم مني وأخافها إلى حد الكتابة عن نفسي وعن آخرين أشعر أنني مثلهم أو أنهم مثلي».
من خلال سلسلة من الروايات والمذكرات والدراسات الأدبية، سجلت عاشور تمردًا لا حدود له في زمنها، كما أنها ومعاصريها كافحوا من أجل الحريات، من نهاية النفوذ البريطاني إلى الانتفاضة العربية وما تلاها.
وُلدت رضوى في القاهرة، في عائلة أدبية وعلمية: والدها مصطفى عاشور محامي وله باعٌ طويل في الأدب. والدتها، مي عزام، شاعرة وفنانة. لقد أشارت رضوى في كتاباتها كيف أنها ترعرعت على تلاوة النصوص الشعرية للأدب العربي من قبل جدها عبد الوهاب عزام، وهو دبلوماسي وأستاذ للدراسات والآداب الشرقية في جامعة القاهرة، وهو أول من ترجم «كتاب الملوك الفارسي (شاه ناما)» إلى اللغة العربية، فضلًا عن كلاسيكيات شرقية أخرى.
دخلت كلية الأدب المقارن في جامعة القاهرة خلال الفترة ما بين أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، حصلت على الماجستير في عام 1972. ثم تقدمت للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة ماساتشوستس في أمهرست؛ عملت على الأدب الأمريكي الأفريقي، ومنحت الدكتوراه في عام 1975، ثم عادت إلى القاهرة، إلى جامعة عين شمس، حيث درّست في ظروف غالبًا ما كانت صعبة داخليًا وخارجيًا.
إنجازات رضوى عاشور
أظهرت تفانياً هائلاً طوال حياتها المهنية، لتصبح أستاذةً للغة الإنجليزية والأدب المقارن في عام 1986، ولتشغل منصب رئيس قسم اللغة الإنجليزية والأدب في الفترة من 1990 إلى 1993. كان النشاط السياسي جزءًا لا يتجزأ من مسيرتها الأكاديمية؛ فعندما سعى الرئيس أنور السادات للتطبيع مع إسرائيل، ساهمت عاشور في إنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة الصهيونية في الجامعات المصرية. وعندما تدخلت حكومة حسني مبارك في الحياة الأكاديمية، ساعدت في إيجاد مجموعة 9 مارس المطالبة باستقلال الجامعات.
بدأت بنشر أعمالها الأكاديمية في عام 1977 وتضمنت (مع فريال غزول وآخرين) وهو مرجع مؤلف من أربعة مجلدات حول الكاتبات العربيات (نُشر باللغة الإنجليزية في مجلد واحد مختصر عام 2008.) وبحلول الثمانينيات، انتقلت عاشور إلى شكل وبيئة خاصة من كتابات الخيال.
عملها الأول في هذا المجال، «الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا»، صدر في عام 1983؛ نشرت روايتها الأولى، «الحجارة الدافئة» بعد عامين. تبعتها مجموعة من الأعمال الطموحة بشكلٍ مضطرد مثل: «سراج» عام 1992، ترجمت في عام 2007 – وهي حكاية مختصرة ورائعة مزجت مغامرة سندباد برواية عاطفية رمزية عن الطغيان، الاستعمار وغيرها على جزيرة خيالية في الخليج العربي، وغرناطة عام 1994-95، تُرجم المجلد الأول في عام 2003، وهي ثلاثية عادت فيها إلى فترة التعايش العربي الإسباني في الأندلس حتى العصر ما بين القرن الثامن إلى طرد اليهود في عام 1492، بعدما كان المسيحيين والمسلمين واليهود يعيشون جنبًا إلى جنب مع بعضهم البعض، وتم اعتبار ثلاثية غرناطة واحدة من أفضل الروايات العربية في القرن العشرين من قبل اتحاد الكتاب العرب.
في رواية الطيف (1998، ترجمت عام 2010)، تشابكت بشكلٍ رائع بمشاهد استحضرتها من شبابها مع حدوث تبدل خيالي للأنا، فأنتجت حالة مؤثرة وحية أخذت مكانها في الاضطرابات السياسية خلال سنوات حكم عبد الناصر والسادات.كما أنها كانت مترجمة ممتازة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية وترجمتها لمجموعة «منتصف الليل» وترجمة زوجها، الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي «قصائد أخرى» (2008) يظهر فهمها الدقيق ومعرفتها لقواعد الكتابة والصور في الشعر الإنجليزي.
«آخر»، في عام 2003، كان تحية لأمه؛ إلى فكرها وشجاعتها وكتابتها. لم تتردد عاشور أو تتغير مواقفها بصفتها شاهدًا وقوة إبداعية. وقد احتلت بالتأكيد مكانة هامة في مجال القصة بما امتلكته من احساس و وعي.
أعمالها في الرواية والقصة:
«الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا»، صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 1983.
«حَجَر دافئ» (رواية) صدرت عن دار المستقبل في القاهرة عام 1985.
«خديجة وسوسن» (رواية) صدرت عن دار الهلال في القاهرة عام1987، و«رأيت النخل» (مجموعة قصصية)، «مختارات فصول» الصادرتين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة عام 1987.
«سراج» (رواية) صدرت عن دار الهلال في القاهرة عام 1992.
«غرناطة» (الجزء الأول من ثلاثية غرناطة) صدرت عن دار الهلال عام 1994.
«مريمة والرحيل» (الجزءان الثاني والثالث من الثلاثية) دار الهلال، 1995. نشرت الطبعة الثانية بعنوان ثلاثية غرناطة، المؤسسة العربية للنشر، بيروت، 1998. صدرت الطبعة الثالثة عن دار الشروق، القاهرة، 2001. وصدرت طبعة خاصة في سلسلة مكتبة الأسرة، القاهرة عام 2003.
«أطياف» (رواية) صدرت عن دار الهلال في القاهرة عام 1999، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999.
«تقارير السيدة راء» (نصوص قصصية) صدرت عن دار الشروق في القاهرة عام 2001.
«قطعة من أوروبا» (رواية) صدرت عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء ودار الشروق في القاهرة عام 2003.
«فرج» (رواية) صدرت عن دار الشروق في القاهرة عام 2008.
«الطنطورية» (رواية) صدرت عن دار الشروق في القاهرة عام 2010.
أعمالها في النقد الأدبي:
البحث عن نظرية للأدب: دراسة للكتابات النقدية الأفرو-أمريكية (بالإنجليزية: The Search for a Black Poetics: A Study of Afro-American Critical Writings)، رسالة دكتوراه قدمت لجامعة ماساشوستس بأمهرست في الولايات المتحدة، 1975.
الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفانى، دار الآداب، بيروت، 1977.
جبران وبليك Gibran and Blake (باللغة الإنجليزية)، الشعبة القومية لليونسكو، القاهرة، 1978.
التابع ينهض: الرواية في غرب إفريقيا، دار ابن رشد، بيروت، 1980.
في النقد التطبيقي: صيادو الذاكرة، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 2001.
تحرير بالاشتراك مع آخرين، ذاكرة للمستقبل: موسوعة الكاتبة العربية، (4 أجزاء)، مؤسسة نور لدراسات وأبحاث المرأة العربية والمجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.
الحداثة الممكنة: الشدياق والساق على الساق: الرواية الأولى في الأدب العربي الحديث، دار الشروق، القاهرة، 2009.
الأستاذة إذ تتكلم!
صدرت حديثاً عن دار «الشروق» في العاصمة المصرية القاهرة الطبعة الأولى من كتاب «لكل المقهورين أجنحة.. الأستاذة تتكلم» للكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور (1946 - 2014).
ويضم الكتاب مقالات للراحلة جُمِعت عقب وفاتها من دوريات محلية وعربية وكذلك مقالات عدة مترجمة عن اللغة الإنجليزية، وبعض الموضوعات الأخرى.
ويقع في 320 صفحة، ويضم 6 أبواب، الأول تحت عنوان «اللغة والأدب»، والثاني «فلسطين»، والثالث «عن الجامعة والثورة»، والرابع «عن الرفاق»، والخامس «كلمات قبول الجوائز»، أما الباب السادس والأخير فهو يضم المقالات المكتوبة بالإنجليزية التي ترجمتها دعاء إمبابي وندى حجازي إلى اللغة العربية وراجعتها ونظمتها الدكتورة فاتن مرسي.
البنت ليست نائمة يا رضوى
(1)
أرى الصغيرة بين ذراعيّ، مهدٌ مؤقت يضمها إلى صدري.
أتمتم: الآن نمسح الغبار عن وجهنا، نزيل التراب عن كفينا وقدمينا، نداوي هذا الجرح البسيط في الركبة، ونتحمم. نترك لماء الله العذب أن ينزل على رأسنا وجسمنا ونتليّف بمكعب طيب من الصابون البلدي، ننبسط لرائحة جسمنا ولملمس الثوب على جلدنا النظيف. ثم نصفِّف شعرنا وندهنه بنقطتين من زيت اللوز، ونضفر جديلتينا ونعقدهما بشريط من الساتان الأبيض. بعدها نغني ونلعب، أنت تركضين وأنا أحاول أن أجاريك الركض، ألهث وأقول: أنا في الستين يا بنت، لا أستطيع اللحاق بك!
«ولكن البنت ليست نائمة يا رضوى، البنت بين ذراعيك، ميِّتة يا رضوى» وليست بنتا واحدة، ولا ولداً واحداً.
عشرون؟ ثلاثون؟ كم عددهم اليوم في قانا وكم عددهم بالأمس في صور ومنذ أسبوعين في مروحين؟ وقبلها في بحر البقر، وقبل قبلها في دير ياسين؟ هل تذكرين عمر في دير ياسين؟ كان ابن عامين، في نفس عمرك يا رضوى، ولكنه ذهب وبقيت، لتتعلمي في المدارس وتعلِّمي وتنشئي أسرة وتكتبي وتبلغي الستين، ذهب وبقيت، ربما لتذكريه.
وما اسم الصغار الذين قضوا في الطنطورة أبناء وبنات جيلك؟ قل لي يا مؤرخ ما اسم هذا الولد؟ ما اسم تلك البنت؟ لم لازمك الصمت طوال هذا الوقت لتحكي فتقول لي أسماءهم؟
(2)
لو كنتَ إنسانا، أي إنسان، ستعرف كم هو فاجع أن يقتل طفل بصاروخ، وهو نائم، وهو يلعب، وهو يأكل، وهو معتكر المزاج يزِّن أو يبكي. ولو كنتَ امرأة سيحملك خيالك إلى شهور حملك التسعة وشهور الرضاع، والشهور التي أمضيتها وهناً على وهن، معلّقا بين جسدك المنهك وذلك التألق بامتلاك طفل جديد. لو كنتَ امرأة ستستعيد لحظة العُسر وسحر غيابها ساحة ينزلق الوليد منك إلى الحياة، فتسمّي عليه وتسمّيه، ستسترجع الفم التائه وهو يبحث عن الثدي مغمضاً ودؤوباً حتى يألف طريقه. سيمر بك الشريط بطيئا ومفصّلاً ومضيئاً بالقفزات: ومضات من الرضيع إلى ملابس المدرسة، من الأول الابتدائي إلى يوم عرسه، وبالوليدة من القماط إلى الجامعة، ومنها إلى الوظيفة والأمومة.
لو كنتَ امرأة لعرفت معنى أن يحصد منجلٌ مسنون حصاد بطنك ورحمك وحشاك.
أنا امرأة.
أنا امرأة في الستين.
أنا والدة.
عشت الحمل والولادة واللهفة على الولد، والزهو والخوف والرجاء، و«بسم الله ما شاء الله»، و«ربنا يحميه»، والرعشة الملتبسة والصغير تحمله ركبتاه يوما بعد يوم إلى غد تدعو أن يكون فيه سالماً غانماً.
وقبل أن أكون والدة، بسنوات، قبل أن أتم الرابعة والعشرين وقفت في موقع مدرسة بحر البقر، بين أنقاض المدرسة وانحنيت على الركام ورفعت أوراقا ممزقة من كتاب القراءة الرشيدة ملوثةً ببقع كانت قد صارت بُنيّة (عدت بها إلى بيتي في القاهرة). وفي نفس اليوم زرت عشرات الأطفال الذين أخطأهم الموت، في مستشفى الحسينية المركزي في الشرقية وكان معظمهم مصاباً في رأسه، أجروا له عملية «تربنة».
صيّرتني المدرسة المهدّمة والناجون من أطفالها أُمّاَ قبل أن أكون والدة. صرت أخاف على الأطفال أكثر فأحبهم أكثر، خوفا غريباً يدفع بي لا للنكوص بل للمواجهة، فلو كنتَ امرأة فلا بد ساعتها أن تعرف أن خوف ذوات الأرحام لا يعرف الهرب. هو خوف غريب عجيب خلاّق وعنيف، يأتي بنقيضه. خوف الأمهات، حين تمتد الذراعان على اتساعهما لتحتضن وتوفر المهد المؤقت، لا يسحب إلى وراء ولا يجر إلى خلف، لا انطواء فيه ولا نكوص بل فيه عناد شرس يستقتل في حفظ ما تخلّق في البدء في الحشا.
لو كنتَ امرأة، أو كنتَ رجلا تعرف نبض الحياة وتحيط بها على طريقة الأمهات لعرفت لماذا المقاومة، ولماذا الصمود، ولماذا الشعوب، ولماذا الأوطان تلك الأرحام الكبيرة التي تُخلِّقُنا في حشاها.
(3)
«الصغيرة ليست نائمة بين ذراعيك يا رضوى، الصغيرة ميتة»
أعرف أعرف، وجهها ترابي شاحب، شعرها مترب مهّوش، ثوبها ملوّث بدم تجمّد، متهدلة بين ذراعيّ رجل الصليب الأحمر، لا أرى الجانب الآخر من جسدها، هل هي كاملة الأطراف؟ لا يهم لا يهم. بل يهم جداً، يهم كثيراً. لن تكبر، لن تذهب إلى المدرسة، لن تفضِّل هذه المدرِّسة عن تلك، لن تهمل في واجبها المدرسي فيوبخها أبوها، لن تحب وتكره وتصاحب وتتشاجر وتصفو وتصالح، لن تصير امرأة وزوجة وأماً، لن يحدث أي شيء. وليكن.
ليكن: سنضع صورتها على الطريق، نحملها معنا في الطريق، ونواصل، نواصل بإصرار أكبر لكي لا يتمكنوا من قتل الصغيرة التالية.