أبواب

أنشودة المطر

قرأت لك

لعل قصيدة من قصائد الشاعر العراقي الكبير «بدر شاكر السياب» لم يتح لها من الشهرة والذيوع على الألسنة والأقلام ما أتيح لقصيدته «أنشودة المطر»،التي نشرها في مجلة الآداب البيروتية في العام 1954تأكيداً لريادة السياب للشعر الحديث.

فقد كانت الصورة الشعرية التي استهل بها السياب «أنشودة المطر» جديدة ومفاجئة، وفي الوقت نفسه عميقة الارتباط ببيئة السياب الاولى » العراق» من حيث مخزون دلالاتها في وجدانه وفي أعماقه حيثما ارتحل أو اغترب.

وهنا بعض المقاطع من القصيدة الشهيرة أنشودة المطر:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،

أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقص الأضواء.. كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وهْناً ساعةَ السَّحَر

كأنما تنبض في غوريهما النّجومْ

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف

والموت والميلاد والظلام والضياء

فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء

ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء

كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر

كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر

وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم

ودغدغت العصافير على الشجر

مطر... مطر.. مطر...

تثاءب المساء والغيومُ ما تزالْ

تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ

كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ

لم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال

قالوا له: «بعد غدٍ تعودْ..»

لا بدَّ أن تعودْ...............

وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ

في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ

تسفّ من ترابها وتشرب المطر

كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك

وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ

مطر.. مطر.. مطر

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع

بلا انتهاء–كالدَّم المراق كالجياع

كالحبّ كالأطفال كالموتى

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ

أَصيح بالخليج: يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى

فيرجعُ الصّدى

كأنّه النشيجْ: يا خليج

يا واهب المحار والردى

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ

حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر

وأسمع القرى تئنّ والمهاجرين

المصارعين بالمجاذيف وبالقلوع

عواصف الخليج والرعود منشدين :

» مطر... مطر... مطر...

وفي العراق جوعْ

وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ

لتشبع الغربان والجراد

وتطحن الشّوان والحجر

رحىً تدور في الحقول حولها بشرْ

مطر... مطر... مطر...

وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموعْ

ثم اعتللنا خوف أن نلامَ بالمطر

مطر... مطر... مطر

ومنذ أنْ كنَّا صغاراً كانت السماء

تغيمُ في الشتاء ويهطل المطر.