ليس بغريبٍ القول إنّ أشدّ ما يقلق الأجندات الخارجيّة الرامية إلى زعزعة أمن هذا البلد، ويجعلها تعود بخفي حنين، هو الممارسة الديمقراطيّة والسلميّة الحضاريّة لشباب الأردن ومواطنيه؛ ولذلك فإننا نرى أصحاب هذه الأجندات ومن سار سيرهم أوّل من يفرح بخروج هذا العنصر البشريّ المهم عن قواعد الاعتصام أو الاحتجاج، تدلّ على هؤلاء كتاباتهم وما يُعنونون به هذه الكتابات هنا وهناك من تهويلٍ وتضخيمٍ، كجزء من اشتغالاتهم الخبيثة والممنهجة على فئتهم المستهدفة من الشباب، مستثمرين ما لدى هذا العنصر البشريّ من طاقةٍ واستعدادٍ فطريٍّ للتصعيد.
ففي الوقت الذي يؤدّي فيه جلالة الملك عبدالله الثاني صلاة الجمعة مطمئناً شديد الثقة بوطنه بين أهله وأبنائه وعشيرته الأردنيّة الواحدة،وفي الوقت الذي تترسّخ فيه لـ«الدّوار الرابع» كينونةٌ سلميّة وحضاريّة، منطلقاً صادقاً لمطالب أثمرت عن حوار رئيس الحكومة مع المتظاهرين أنفسهم دون وسيط،.. يحاول «مندسّون» أن يحرفوا هذا المظهر الديمقراطيّ المهيب عن مساره، فيصبح ساحةً للنابي من الألفاظ الذي يحرج بالتأكيد محتجين فيهم المثقف والأكاديمي وفيهم أبناؤنا وبناتنا، ما يجعلهم يبحثون في خضمّ هذا الازدحام عن مخرجٍ ينأون بأنفسهم عن كلّ ما تعافه الأذواق السليمة وتأباه، وربّما وجدوا في رجل الأمن ملاذاً شديد الحرص على الجوّ النقيّ من التطاول والقدح والسلوك الغريب الذي يرجوه الباحثون عنه في ذروة الاعتصام أو المواجهة التي يهيّجها «غوغائيّون» يضعون رجل الأمن نفسه موضع الإحراج،
وليتذكّر شبابنا أنّ هذا الجهاز الأمني هو ذاته الجهاز الذي ضرب أروع الأمثلة يوم انطلقت «ثورات الربيع العربي» وكان فيها يقدّم العصائر والمرطبات للمتظاهرين.
ليس هناك في الواقع من سببٍ وجيهٍ أو موضوعي للفوضى أو الغوغائيّة؛ طالما أنّ حريّة التعبير السلمي مكفولة، وطالما أنّ الحكومة نفسها لا تعترض على دعوات التحشيد، وأنّ ثلاثية «الحكومة والبرلمان والنهج الاقتصاديّ» باتت ثقافةً عامّةً يمكن تداولها بعيداً عن «الشتم» والتطاول، وهو أمرٌ محرجٌ جداً أمام حكومة تستمع لهذه المطالب وتتابعها وتحاورها، بل وتعلن صبيحة كلّ يوم أنّ من خرجوا إلى «الدّوار» إنّما هم أبناء بلد، يتحدثون بحرقة ويريدون الحفاظ على ثروات البلد ومقدراته!
هل هناك من ديمقراطيّةٍ أكبر من ديمقراطيّة بلدنا التي تتقدّم في ظلّها فتاةٌ فتعرّفُ بنفسها متحدثةً إلى رئيس الحكومة ذات لقاء بأنّها «من الدوار الرابع»؟!.. ثمّ يأتي من يقول إنّ «تعاملاً أمنيّاً خشناً»جرى على هذا الدوار، ومثل ذلك كثير من هذه التعابير الماحقة التي لا تغيب عن الواعين محلّ رهان مليكهم ووطنهم وأهلهم والبسطاء من الناس،.. والعجيب أنّ التعامل الأمني لدينا، وكما يعرفه الجميع، تعاملٌ إنسانيٌّ في طبيعته، حتى لقد قيل إنّ رجل الأمن الأردنيّ دائماً ما تسبقه ابتسامته الوطنية ومُحيّاهُ الأصيل الخجول والنبيل حتى في أضيق الظروف وأشدّها إحراجاً له، وما وجوده في الحقيقة إلا ليضمن السير الحضاريّ للمعتصمين، وألا يكون اعتصامهم سبباً في تعطيل مصالح الناس والمارّة وحركة السير.
لكنْ، متى يتضاءل وجود «المندسين» فتُخنق أنفاسهم وينسحبون؟!.. يتمّ ذلك فقط حين تتضمّن الهتافات ما يحمل معنى أننا جميعاً حراسٌ لهذا الوطن، وحين تتم المناداة بمحاربة آفة الفساد بعقلانية، وهو الملفّ الذي دعا جلالة الملك الى كسر ظهره وتؤكّد الحكومة أنّها لن تغلقه أو تطويه وأنّها مصرّةٌ على أن تتابع مجرياته،.. ومثل ذلك في إعادة الحوار بشأن مواضيع اقتصاديّة،..أمّا حين يتم «تسييس» الاعتصام من نفر مدفوع، وحين يتم ترويج الإشاعة لغرض بلبلة الصّف الواحد، فذلك أمرٌ على المعتصمين أنفسهم أن يقفوا منه موقف الرافض لكلّ تطاولٍ أو قدحٍ أو إساءة، فبين التعبير الحضاريّ المكفول والغوغائيّة الاستقوائيّة المرفوضة فرقٌ كبير علينا أن نعيه جيداً، لأنّ الفوضى لا تحقق مطلباً أو تؤدّي إلى نتيجةٍ أو تمهّد لحوار.
مواضيع ذات صلة