أبواب - زياد عساف
وبعد غياب لأكثر من عشرين عاماً عاودت الظهور فجأة بهدف المشاركة بالتظاهرة السنوية ” موعد مع الفنانين”، كان لهذا العنوان دلالته هذه المرة، إذ اعتبره الحضور موعداً مع الحنين للزمن الجميل، فأخذوا يلحون عليها بأن تعيد على مسامعهم أجمل أغنياتها (عطشانة)، وبصفاء صوتها العذب راحت بهيجة إدريس تشدو لجمهورها ذاك المقطع المؤثر من الأغنية: الماء يجري قدامي صافي مثل البلار .. وانا قضيت أيامي عطشانة مكوية بالنار، وكأن بها ومن خلال هذه الكلمات تعبر عن عطش من نوع اّخر، هو عطش الفنان الأصيل للإهتمام و التقدير خاصة لمن هم على شاكلتها وما زالوا على قيد الحياة، إلا أن الكثيرين لا يعلمون ذلك.
مكناس ..
” شويخ من ارض مكناس وسط الاسواق يغني ..”، أغنية ورغم وما تطرحه من بعد فلسفي إلا أنها تعكس في الوقت ذاته ارتباط مدينة مكناس المغربية بالفن والغناء التي أنجبت أهم المطربين المغاربة، ففي هذه المدينة العريقة ولدت بهيجة عام 1938، ومن عائلة تضم أسماء كان لها حضورها المؤثر على ساحة الغناء في المغرب، أمثال شقيقتها أمينة إدريس صاحبة الأغنية الشهيرة: التلفون، ومتزوجة من الموسيقار محمد بن عبد السلام، وشقيقها الفنان محمد إدريس، وزوجها الموسيقار عبد الرحمن الكردودي ومنه أنجبت ابنتها المطربة دعاء عبد الرحمن والشاعرة فاتن عبد الرحمن.
تواجد المقربون منها في الوسط الفني بالمغرب لا يعني ان طريقها مفروش بالورود، خاصة أنها من أوائل النساء المغربيات ممن تجرأن للدخول في مجال الغناء، صعوبات جمة واجهتها كأي إمرأة تجرؤ على التفكير بخوض غمار الفن آنذاك، فواجهت من الرفض الكثير في البداية، لدرجة أن وصل الأمر وكما يروى بأن أشقاءها اقتحموا مبنى الإذاعة أكثر من مرة لمنعها من الغناء.
يا جميل ياللي رمشك قاللي..
ميولها و حبها للغناء كان له مؤشرات بدأت معها وهي في سن الثانية عشرة، ولفتت انتباه من حولها وهي تؤدي واحدة من أغنيات نجاة الصغيرة، توافق ذلك مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وضعت نصب عينيها أن تتعدى بتجربتها حدود موطنها والتوجه نحو البلاد العربية لما لهذه الخطوة من أهمية لأي فنان، وكانت أول مطربة مغربية تتوجه نحو مصر وذلك بداية الستينات بهدف الإنطلاق من أرض الكنانة وهو العرف المُتَّبع لدى عدد كبير من الفنانين العرب تلك الفترة.
تشير الصفحة الخاصة بها على مواقع التواصل الإجتماعي عما أنجزته في المدة التي أقامتها بالقاهرة، وتم توثيقه من خلال لقاء صحفي أجرته معها مجلة الكواكب المصرية بتاريخ: 6 سبتمبر 1960، تحدثت في هذه المقابلة عن حلمها بالغناء في الإذاعة المصرية، والظهور عبر التلفزيون و السينما، في هذه الزيارة وكما ذكرت حققت بعضاً من أحلامها، وغنت من ألحان الموجي: يا جميل ياللي رمشك قال لي، وهي واحدة من أغنياتها الجميلة و الخفيفة و تشدو في مطلعها :
ياجميل ياللي رمشك قال لي
على اسرار الحب و حاله
ابعد عني الحب و خللي
قلبي الهاني راضي بحاله.
وعود ..
في الوقت نفسه التقت بكبار الموسيقيين المصريين و حصلت منهم على وعود بتقديم ألحان خاصة بها لكن أغلبها لم تنفذ، الموسيقار رياض السنباطي أبدى إعجابه بصوتها وتم الإتفاق وقتها على أن يقدم لها لحنا لأغنية بعنوان: همسات، لتغنيه في التلفزيون ضمن البرنامج الشهير وقتها: البيانو الأبيض للمخرج محمد سالم، ووعود أخرى من ملحنين أمثال: بليغ حمدي و منير مراد إلا أن هذه المشاريع لم تنفذ لأسباب غير معروفة، ومع ذلك سجلت بعضاً من أغنياتها في إذاعتي البرنامج العام و صوت العرب، ومن شاشة التلفزيون المصري شدت بقصيدتها الشهيرة:
قل لمن صد و خانا ورمى عنه هوانا
ومضى عنا وولى وغدا يبغي سوانا
ما الذي أرغب عنا ذلك البدر المُعَنَّى
لم تطل الإقامة في عاصمة المُعِز و عادت لبلدها دون أن تحقق الكثير من الأحلام التي تصبو إليها، الوجهة التالية كانت الكويت عام 1962، وكانت أيضاً أول مطربة مغربية تزور دول الخليج العربي، سجلت للإذاعة الكويتية مجموعة من أغانيها و خصت بواحدة منها أمير الكويت اّنذاك الشيخ عبدالله السالم، وتوافق ذلك مع مناسبة الإنعقاد الأول لمجلس الأمة، ومن كلماتها: يد الشعب في يدك الطاهرة.. تبايع ليس سواك أمير .
ولم تتوقف رحلاتها لمصر و الكويت وجابت العديد من دول شمال إفريقيا، ألا أنها تابعت مشوارها في بلدها المغرب، وأنجزت العديد من الأعمال مع مجموعة بارزة من أهم الموسيقيين و الملحنين المغاربة، أمثال: محمد بن عبد السلام، احمد البيضاوي، عبد السلام عامر، عبد اللطيف السحنوني، عبد النبي الجيراري، العربي الكواكبي، محمد فويتح، بالإضافة لتقديمها أغنيات من ألحان زوجها عبد القادر الكردودي.
حفل أرشيفها الغنائي بمجموعة ألحان نظم كلماتها شعراء و مؤلفون من أبناء جلدتها ومن بينهم :
عبدالله شقرون و محمد الغربي و احمد الطيب العلج و علي الحداني وحمادي التونسي و عبد الرفيع الجواهري و محمد بلحسن.
اعتزال..
” البَحَّة ” في صوتها والرقة في الأداء جعلها متوَّجة على قلوب مستمعيها ونالت العديد من الألقاب إثر ذلك مثل كوكب الطرب المغاربي و سيدة الأغنية المغربية ، ونالت أغانيها العاطفية الإستحسان ومن هذا اللون قدمت مجموعة أغنيات مثل: الشمس غربات، انت هاني و انا هانية، ما تفاهمناش ، خليك معايا، انا وياك غامرنا، محبوبي ما جاي، الخطابة، بعد اليوم لا تنتظر، اهلا و سهلا بالنسيان، خايفة قلبي لايبوح بسري للناس، الغزيل، يلا مقدر لي نعشق، رجعلي وكان مسافر، ما تفرط، عرفناك جميل، سنواتي، أيام زمان، ياختي قوليلي، انت القمر، مقدر لي نعشق، صوت الماضي، حبيبي مسكين محتار، يا أنا يا هو، تحلف بحبك، غاب عليا غاب، يا واخد من الورد لونه، مالو غضبان ياما، علاش لا و مظلومة.
وخاضت غمار الفن الصعب وهو غناء القصائد وأدت مجموعة منها بكل ثقة و اقتدار، ومنها قصيدة: الهجران ألحان احمد البيضاوي و قصيدة ليلتي، وشدت من شعر ابن زيدون: الشوق القاتل، وكان لها بعض الأغاني الدينية ومن بينها: قمر طل علينا و شهر التقى، ومن الغناء الشعبي المغربي: المالحة.
وعند السؤال عن أسباب تراجع الغناء العربي لايمكن إغفال إعتزال بعض المطربين الذي أفضى الساحة لغيرهم من غير المؤهلين، و إن كان هناك أسباب مقنعة لاعتزال بعضهم، تبقى الخسارة الأكبر لمن اعتزلوا و هم في عز الشهرة، كحال بهيجة إدريس باعتزالها أواخر السبعينات واستقرارها في الإمارات العربية المتحدة، وكان الدافع لذلك و حسب ما ذُكِر في بعض الصحف و المواقع الألكترونية بهدف التفرغ لأسرتها، وهذا ما ينطبق على إبنة موطنها الفنانة المغربية عزيزة جلال التي اعتزلت في قمة نجاحها للسبب ذاته.
أيام شبابي:
الإبداع يتبعه بطبيعة الحال انجازات يتميَّز بها الفنان عن غيره، ولا يتوقف تميُّز بهيجة على ما قدمته من أعمال سمتها التنوع و بعدها عن ما يخدش الذوق العام، و إنما يحسب لها تمهيدها الطريق للمرأة المغربية للإلتحاق بركب المطربات العربيات وذلك بإصرارها على تخطي كل الصعاب، في الوقت ذاته ظلت تغني بلهجة بلادها رغم أنها كانت السبَّاقة بالوصول لمصر، على عكس مطربات مغربيات أُخريات أمثال عزيزة جلال و سميرة سعيد ممن قدمن أعمالهن باللهجة المصرية.
المتأمل في ما قدمته من أعمال يلاحظ عدم توظيف الملحنين لصوتها بالإتجاه الصحيح وبالعديد من أغنياتها والتي بدت من خلالها و كأنها تقلد نجاة الصغيرة في العديد من أغنياتها مثل: حبيبي أنا، أغير عليك، من غير ميعاد، الورد غار من لون خدك، حبيبي أنا و ألف نجمة، و أكثر ما يتجلى ذلك بالإستماع لها وهي تغني: أيام شبابي مع الكورال المرافق لها، لدرجة صعوبة التفريق بينها و بين نجاة.
ظلم اّخر و قع عليها عندما أراد بعض الموسيقيين أمثال أحمد البيضاوي بتقديمها كمنافسة لأم كلثوم وفي غناء القصائد تحديداً، مثل قصيدة: حبيبي تعال وهجران و يد الشعب، الحان البيضاوي.
دويتو..
بدأت بهيجة حياتها الفنية بأغنية دويتو: عندي وحيدة، أو ما يعرف بالأغنية الثنائية و شاركها بالغناء الفنان ابراهيم القادري، ومن هذا اللون قدمت عدة أعمال مثل: هادي مكتوبة مع عبد الوهاب الدوكالي، انت هاني و انا هانية مع بن طاهر، و أنا ماشي و أنت ماشية بمشاركة زوج شقيقتها الفنان محمد بن عبد السلام، و القمر الأحمر و قاسمها الغناء عبد الهادي بلخياط، رغم جمال هذا اللون من الغناء إلا أنها لم تستفد منه كما يجب، لأن هذا الفن مكانه الحقيقي السينما الغنائية و الإستعراضية غير متوفر في المغرب الستينات حينها، وكانت الفرصة الحقيقية لتبرز في هذا المجال أثناء تواجدها في القاهرة من خلال السينما الغنائية المصرية السبَّاقة في هذا الحقل، إلا إنها لم تحظ بهذه الفرصة أيضاً.
حظها من الأغنيات الوطنية كان قليلاً قياساً بغيرها، وهذا إجحاف اّخر وقع بحقها، إذ لا يخفى على كل من عرفها عن قرب، بأنها تتمتع بحسها الوطني، ولقد كان ضمن برنامجها في مصر الستينييات إقامة حفلات يذهب ريعها لدعم فلسطين و ثورة الجزائر، وأعلنت في اّخر ظهور لها عام 2009 وفي حفل (موعد مع الفنانين) كما سبق والمقام تحت شعار ( التضامن مع الشعب الفلسطيني)، أعلنت وقتها عن تحضيرها لعمل غنائي عن غزة وبثلاث لغات عالمية بمشاركة إبنتيها، المطربة دعاء عبد الرحمن، والشاعرة فاتن عبد الرحمن، وكما يبدو لم يظهر هذا المشروع للنور .
إغضب..
رغم ما حققته قصيدة ( إغضب ) لنزار قباني بصوت أصالة، يخفى على الكثيرين أن بهيجة إدريس هي أول من غنى هذه القصيدة وبفترة السبعينات بأداء و لحن مختلف، و بنفس الفترة غنتها المطربة العراقية أنوار عبد الوهاب، وبعيداً عن أفضل من قدمها، إلا أن مضمون و فكرة الأغنية يتنافى مع طبيعة وشخصية بهيجة التي عرفت بإصرارها و تحديها، فمضمون هذه القصيدة يدعو لتنازل المرأة عن كبريائها وتسامحها مع من لم يحفظ الود والعهد، ولهذا السبب رفضت أم كلثوم غناء هذه القصيدة عندما عرضها عليها نزار قباني بفترة خمسينات القرن الماضي، لأنها تتنافى مع عزة نفسها كإمرأة شرقية.
هذه الفكرة كررتها بهيجة إدريس في بعض أعمالها ومنها غنت قصيدة: أعجب أمري ومن كلماتها:
فكم يشتكي مني الإباء تذللي لحبك.. لكن لا أطيع إبائيا.
أحسن..
ويبقى السؤال لأي مدى على الفنان أن ينسجم بقناعاته في الحياة مع ما يغنيه من حيث الكلمات و المضمون، ورغم الأغنيات العديدة التي استمعنا إليها بأصوات نسائية ترفع شعار التسامح وعلى حساب المشاعر وعلى طريقة: إغضب، ومع ذلك يبقى في المقابل هناك العديد من الألحان التي تتغنى بعزة نفس و إباء المرأة العربية، سعاد محمد و رغم أنها أعادت بصوتها أغنية بهيجة ( حبيبي تعال ) التي تدعو للمصالحة من طرف واحد، عادت تتغنى بعزَّة نفس المرأة العربية وفي واحدة من جميل أغنياتها بعنوان ( أحسن )، كلمات صلاح جاهين و ألحان سيد مكاوي، ومن خلالها راحت ترد على ( خاين العشرة ) في مقدمة الأغنية:
أحسن.. تخاصمني تخوني أقول أحسن.. لا أزعل كده ولا أحزن .. ح احب حد تاني .. زيك كده و احسن!.
وتتابع سعاد محمد الأغنية مؤكدة على صلابة موقفها:
والله العيب ما جاش مني لكن منك
راح حبي بس عاش قلبي غصبن عنك
دي نصرة ليا و حسرة ليك و للخاينين
كنت أقدر أطفي عواطفي بس مش هاينين
ح احب حد تاني زيك كده و احسن..!
بهيجة ادريس.. سيدة الأغنية المغربية
12:00 21-11-2018
آخر تعديل :
الأربعاء