عندما تقرأ عن مدى الانضباط الصارم لدى الدول المتقدمة في التعامل مع المال العام مهما كان حجم المبلغ قليلا، والمساءلة القانونية والقضائية للمسؤول مهما كان موقعه تكتشف حجم الهوة بيننا وبينهم، فما نعتبره مخالفة بالنسبة إليهم فساد، فقد أثبت تقرير ديوان المحاسبة حجم الإهمال واللامبالاة التي نتصرف بها بالمال العام ، فلقد كان الإجراء المعهود سابقاً بالتعامل مع تلك التقارير، بإحالتها للجهات المعنية للإطلاع والدعوة إلى تصويب ما ورد فيها من مخالفات، ولكننا لم نشعر بمقدار الكارثة التي كانت تعيشها مؤسساتنا الحكومية إلا بعد أن تعاملت الحكومة الحالية بجدية بأن أحالت ما ورد في التقرير الحالي لعام 2017 إلى لجنة مختصة تحت طائلة المسؤولية الجزائية. وبالفعل فلقد أصبحنا نقرأ ونسمع عن إحالة العديد من المخالفات الواردة في التقرير إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد لوجود شبهات فساد بها.
أعتقد أن الإهمال المتراكم وعدم الجدية في التعامل مع التقارير لسنوات طويلة ،أسهم بلا شك في زيادة عجز الموازنة العامة للدولة، والذي لو تم التعامل معه بهذه الجدية لكنا قد تجنبنا مصائب التصحيح الاقتصادي التي أدت الى زيادة الضرائب.
إن المتأني في قراءة الأرقام الواردة في تقرير الديوان الحالي وفي السنوات السابقة يُصدم من حجم الإسراف غير المبرر ، فإذا ما أستثنينا مقدار الوفر المالي المباشر وغير المباشر الذي حققه الديوان، وأقصد هنا (غير المباشر)، المعالج في وقته وليس مذكوراً في التقارير، إضافة الى مبالغ التجاوزات، فإننا نتحدث عن مئات الملايين بل وتتعدى ذلك ، فالمبالغ التي استطاع الديوان إسترجاعها والواردة في التقارير من عام 2014 ولغاية 2017 تزيد عن (250) مليون دينار، أما التجاوزات فهي المبالغ التي ذُكرت بالتقارير ولم يتم استرجاعها وهي في كثير من الأحيان تعادل أرقام الوفر الذي حققه الديوان. وبحسبة بسيطة فإن نسبة التجاوزات تقارب النصف مليار دينار، إضافة إلى ذلك فإن التقرير تطرق إلى عدد القضايا الحقوقية والجزائية التراكمية المنظورة أمام القضاء، والتي بلغ عددها (8170) قضية، قيمتها الإجمالية (1739) مليون دينار، حيث تم تحصيل مبلغ (804) ملايين دينار، ليبقى مبلغ (935) مليون دينار دون تحصيل حتى نهاية عام 2017.
إن الجانب المغفل في تقرير الديوان (لعدم الإختصاص)، هو الجانب الإداري، مرده حالة التسيب في إتخاذ القرارات الإدارية المخالفة للقوانين والانظمة المعمول بها، والتراخي واللامبالاة بالتصرف في الأموال العامة. أما أخطر انواعها،ما يطلق عليه تعبير القرارات المستندة الى الصلاحيات الإدارية، السلطة التقديرية، أو ما يسمى القرارات المتخذه بناء على المصلحة العامة.
لقد شاركت بعشرات لجان التحقيق المتعلقة بالفساد المالي والإداري ، ولكن للأسف غالباً ما نجد أن القرارات المخالفة للقوانين والأنظمة تصدر بتوجيهات من الرئيس، ويتم تكييفها وصياغتها بطريقة وكأنها مطابقة للقانون ظاهرياً، و للأسف في هذه الحالة فإن الموظفين هم من يتحملون المسؤولية الجزائية. أما أخطر القرارات الإدارية تلك التي تتخذ إستناداً لما يسمى (حالة الإستثناء) التي تقتضيها المصلحة العامة، والتي تُعطي للرئيس حق إتخاذ القرارات الإستثنائية وفقاً لأحكام القانون، والتي تكون أصلاً مشروطة بعدم التوسع بها أو القياس عليها، لأنه في تلك الحالة يصبح الإستثناء قاعدة عامة والقاعدة العامة استثناء.
إن ما ورد في تقرير ديوان المحاسبة مرده (فساد مُبطن) مبني على مشروعية قانونية زائفة أسبابها ضعف الرقابة والمساءلة القانونية، لذلك أتمنى على الحكومة أن تتبنى فكرة إعادة النظر في دورالأجهزة الرقابية الداخلية وتحصينها وتوسيع صلاحياتها القانونية حتى تكتمل الصورة بين الرقابة المالية والإدارية فكلاهما يؤديان إلى المحافظة على المال العام.
مواضيع ذات صلة