وليد سليمان
الدكتور الطبيب مصطفى محمود، هو أحد اشهر الكُتّاب والمفكرين المصريين والعرب، له رؤية فلسفية للحياة... ويعتبر من أكثر الشخصيات تأثيراً في الشباب المسلم وغير ذلك أيضاً.
وقد ألّف حوالي (90) كتاباً منها: الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، بالاضافة للحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة.
وقد قدم الدكتور مصطفى محمود 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير (العلم والإيمان).
وانشأ عام 1979 مسجداً على نفقته الخاصة في القاهرة المعروف بـ»مسجد مصطفى محمود»، ويتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، ويقصدها الكثير من أبناء مصر نظراً لسمعتها الطبية، وشكل قوافل للرحمة من ستة عشر طبيباً.
ويضم مركز د. مصطفى محمود اربعة مراصد فلكية، ومتحفاً للجيولوجيا يقوم عليه اساتذة متخصصون، ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية.
وكان قد عاش مصطفى محمود بداياته بجوار مسجد «المحطة» الشهير الذي يعتبر من احد المزارات الصوفية الشهيرة في مصر والذي ترك الأثر الواضح على أفكاره وتوجهاته.
وانشأ مصطفى محمود معملاً صغيراً في منزل والده ليصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية وذلك حتى يقتل بها الحشرات ثم يقوم بتشريحها، وحين التحق بكلية الطب اشتُهر بـ»المشرحجي» نظراً لوقوفه طوال اليوم أمام أجساد الموتى، طارحاً التساؤلات حول سر الحياة والموت وما بعدهما.
**الطريق إلى الكعبة
ويقول د. مصطفى محمود في بداية كتابه «الطريق الى الكعبة» الصادر في سبعينيات القرن الماضي وذلك عند وقوفه على جبل عرفات ما يلي:
الجمعة.. الشمس تنحدر الى المغيب على جبل عرفات.
الجبل مزروع بالخيام، مليون وخمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الاحرام البيض.. لا تعرف الواحد من الاخر.. لا تعرف من الفقير ومن الغني ولا تعرف من التركي ومن العربي.
اختفت الجنسيات واختفت الازياء المميزة واختفت اللغات.. الكل يلهج بلسان واحد.. حتى الجاوي والصومالي والاندونيسي والزنجي والاذربيجاني الكل يتكلم العربية.. بعضهم ينطقها مكسرة وبعضهم ينطقها بلكنة اجنبية.. وبعضهم يمد بعض الحروف ويأكل بعض الحروف ولكنك تستطيع ان تفهم من الجميع وتستطيع ان تسمع انهم يهتفون.. لبيك اللهم لبيك.
والذين لا يعرفون العربية تراهم قد التفوا حول مطوف يرددون وراءه الدعاء العربي حرفا حرفا في خشوع وابتهال.
في البقعة التي كنت اقف فيها اكثر من خمس عشرة جنسية مختلفة في مكان لا يزيد عن امتار معدودة، التركمنستان والباكستان وكازخستان وغينيا وغانا ونيجيريا وزنجبار واوغندة وكينيا والسودان والمغرب واليمن والبرازيل واسبانيا والجزائر وسيلان، كلهم حولي يتصافحون ويتبادلون التحية ويهنئ بعضهم بعضا.
ولولا ان المطوف اخبرني بهذه الجنسيات لما عرفتها، فالكل كانوا يبدون لعيني وكأنهم عائلة واحدة في مجلس عائلي حميم.
على بعد خطوات كان اكثر من ستين هنديا يلتفون حول مطوف هندي هو الاخر فيما يبدو يقرأ لهم الدعاء العربي من كتاب في يده، وهم يرددون خلفه الدعاء وهم يبكون وقد تخضلت لحاهم الطويلة الكثة بالدموع.
وهم قطعا لم يكونوا يعرفون العربية، ولم يكونوا يدركون معاني ما يرددون من حروف، وانما شعروا بها بقلوبهم فبكوا.
كان كل واحد يشعر انه يخاطب الله بهذه الحروف وانه في حضرة الله وفي ضيافته وفي رحابه، وانه يقف حيث كان يقف محمد عليه الصلاة والسلام، النبي العظيم البدوي الفقير الامي، وانه يسجد حيث كان يسجد ويركع حيث كان يركع ويردد ما كان يردده من دعاء، بذات اللسان العربي، وفي ذات يوم، يوم الجمعة من ذي الحجة، ولعل ذبذبات صوت النبي واصوات اصحابه ما زالت في الفضاء حوله، فلا شيء يفنى في الطبيعة ولا شيء يستحدث.
عرفت ان هؤلاء الستين هم من افقر طائفة هندية وانهم جاءوا الى مكة على الاقدام وعلى سفن شراعية وعلى جمال.
وكان زعيمهم يحمل علما عبارة عن خرقة ممزقة وبعضهم جاوز الثمانين، وبعضهم كف بصره وبعضهم كان يحمل بعضا، وكان الكل يبكون بحرقة ويذوبون خشوعا، كانوا فقراء حقا.
وعلى بعد خطوات كان هناك هندي اخر قال لي المطوف انه مهراجا يملك عدة ملايين، وكان بذات ملابس الاحرام البيضاء، وكان يبكي بذات الخشوع، وكان مشلولا يحمله اتباعه على محفة، كان فقيرا هو الاخر حقا، ومن منا ليس فقيرا الى الله، ان الملايين لا تعفي احدا من الشيخوخة والعمى والمرض والموت، ان السيد وخادمه يمرضان بالانفلونزا ويمران بنفس الاعراض، بل نرى السيد يعاني دائما اكثر من الخادم ويستنجد بعشرات الادوية والعقاقير ويجمع حوله الاطباء فلم يفعل له العلم ولا الطب شيئا، وكانوا يقولون لنا في كلية الطب على سبيل السخرية، ان الانفلونزا تشفى في سبعة ايام بدون علاج، وفي اسبوع اذا استخدمنا العلاج.
والانفلونزا مرض بسيط، تافه، هي مثل من الف مثل لضعف الانسان وحاجته وفقره الحقيقي مهما كثرت في يده الاموال وتعددت الاسباب.
من منا ليس فقيرا الى الله وهو يولد محمولا ويذهب الى قبره محمولا وبين الميلاد والموت يموت كل يوم بالحياة ومرات ومرات، واين الاباطرة والاكاسرة والقياصرة.
هم وامبراطورياتهم آثار.. حفائر .. خرائب تحت الرمال.
الظالم والمظلوم كلاهما رقدا معا.
والقاتل والقتيل لقيا معا نفس المصير.
والمنتصر والمهزوم كلاهما توسدا التراب.
انتهى الغرور..
انتهت القوة.. كانت كذبة.
ذهب الغنى..
لم يكن غنى.. كان وهماً.
العروش والتيجان والطيالس والخز والحرير والديباج .. كل هذا كان ديكوراً من ورق اللعب.. من الخيش المطلي والدمور المنقوش.
لا احد قوي ولا احد غني.
انما هي لحظات من القوة تعقبها لحظات من الضعف يتداولها الناس على اختلاف طبقاتهم.
لا احد لم يعرف لحظة الذل ولحظة الضعف ولحظة الخوف ولحظة القلق.
من لم يعرف ذل الفقر عرف ذل المرض او ذل الحب او تعاسة الوحدة او حزن الفقد او عار الفضيحة او هوان الفشل او خوف الهزيمة.
بل ان خوف الموت ليحلق فوق رؤوسنا جميعا. كلنا فقراء الى الله كلنا نعرف هذا.
وهم يعرفون هذا جيدا.. ويشعرون بهذا تماما، ولهذا يبكون.. ويذوبون خشوعا ودموعا.
سألني صديقي وهو رجل كثير الشك:
- وما السر في ثياب الاحرام البيضاء وضرورة لبسها على اللحم وتحريم لبس المخيط.. وما معنى رجم ابليس والطواف حول الكعبة.. الا ترى معي انها بقايا وثنية..
قلت له: انت لا تكتفي بأن تحب حبيبك حبا عذريا افلاطونيا وانما تريد ان تعبر عن حبك بالفعل.. بالقبلة والعناق واللقاء.. هل انت وثني؟.
وبالمثل من يسعى الى الله بعقله وقلبه.. يقول له الله ان هذا لا يكفي.. لا بد ان تسعى على قدميك.
والحج والطواف رمز لهذا السعي الذي يكتمل فيه الحب شعورا وقولا وفعلا.
وهنا معنى التوحيد.
ان تتوحد جسدا وروحا بأفعالك وكلماتك.
ولهذا نركع ونسجد في الصلاة ولا نكتفي بخشوع القلب .. فهذه الوحدة بين القلب والجسد يتجلى فيها الايمان بأصدق مما يتجلى في رجل يكتفي بالتأمل.
اما ثياب الاحرام البيضاء فهي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الاجناس ويتساوى فيها الفقير والغني.. المهراجا واتباعه.
ونحن نلبسها على اللحم.. كما حدث حينما نزلنا الى العالم في لحظة الميلاد وكما سوف يحدث حينما نغادره بالموت.. جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم.. ونخرج من الدنيا بذات اللفة.
هي رمز للتجرد.. لان لحظة اللقاء بالله تحتاج الى التجرد كل التجرد.
ولهذا قال الله لموسى:
«اخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى».
هو التجرد المناسب لجلال الموقف.
وهذا هو الفرق بين لقاء لرئيس الجمهورية.. ولقاء مع الخالق.
فنحن نرتدي لباس التشريفة لنقابل رئيس الجمهورية.
اما امام الله فنحن لا شيء.. لا نكاد نساوي شيئا وعلينا ان نخلع كل ثياب الغرور وكل الزينة.
قال صديقي في خبث: ورجم ابليس؟.
قلت:
- انت تضع باقة ورد على نصب تذكاري للجندي لمجهول وتلقي خطبة لتحيته.. هل انت وثني؟.
لماذا تعتبرني وثنيا اذا رشقت النصب التذكاري شيطان بحجر ولعنته .. انها نفس الفكرة.
انها كلها رمزيات.
انت تعلم ان النصب التذكاري مجرد رمز وانه ليس الجندي.
وانا اعلم ايضا ان هذا التمثال رمز وانه ليس الشيطان.
وبالمثل السعي بين الصفا والمروة الى حيث نبعت عين زمزم التي ارتوى منها اسماعيل وامه هاجر.. هي احياء ذكرى عزيزة ويوم لا ينسى في حياة النبي والجد اسماعيل وامه المصرية هاجر.
وجميع شعائر ديانتنا ليست طقوسا كهنوتية بالمعنى المعروف، وانما هي نوع من الافعال التكاملية التي يتكامل فيها الشعور والتي تسترد بها النفس الموزعة وحدتها.
انها وسيلة لخلق انسان موحد.. قوله هو فعله.. فالكرم لا معنى له اذا ظل تصريحا شفويا باللسان وانما لا بد ان تمتد اليد الى الجيب ثم تنبسط في عطاء ليكون الكرم كرما حقيقيا.. هل هذه الحركة وثنية او طقسا كهنوتيا.
وبهذا المعنى، شعائر الاسلام ليست شعائر وانما تعبيرات شديدة البساطة للاحساس الديني.
ولهذا كان الاسلام هو الدين الوحيد الذي بلا طقوس وبلا كهنوت وبلا كهنة.
الا تراهم امامك اكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة ويركعون على الارض العراء حيث لا محاريب ولا مآذن ولا قباب، ولا منابر ولا سجاجيد ولا سقوف منقوشة بالذهب ولا جدران من المرمر والرخام.
لا شيء سوى العراء.
ونحن عراء.
ونفوسنا تعرت امام خالقها فهي عراء.
ونحن نبكي.. كلنا نبكي.
وسكت صديقي وارتفعت اصوات التلبية من مليون وخمسمائة الف حنجرة.. لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.