كتاب

الحوار الوطني بعيداً عن الجدال

لم تكن الدعوة الملكية للحكومة الجديدة ضرورة تبني مبدأ الحوار الوطني وليدة ظرف معين أو نتاج الاحتجاج الشعبي الأخير، بقدر ما هو فكر متأصل لدى جلالة الملك ورغبة أكيدة من لدنه لممارسة وتأصيل هذا النهج، بوصفه الخطوة الأهم في سبيل تعزيز وتمكين الخيار الديموقراطي، فقد أعلن جلالة الملك من خلال ورقته النقاشية الأولى الصادرة في التاسع والعشرين من كانون الأول 2012 أن مسؤوليته تتمحور في تشجيع الحوار بيننا كشعب يسير على طريق التحول الديموقراطي، وتأكيداً لذلك وفي دلالة واضحة على تبني نهج الحوار الوطني فقد وضع جلالته ورقته النقاشية الثانية الصادرة في السادس عشر من كانون الثاني 2013 موضع التطبيق الفعلي عندما أعلن رغبته في مشاركتنا في اجتهاده في الرأي وذلك مساهمة منه في تدعيم نهج الحوار الوطني حول أحد أهم جوانب التطور الديموقراطي المتعلق بالانتقال نحو نهج الحكومات البرلمانية، كما أكد جلالة الملك من خلال الورقة النقاشية الثالثة الصادر في الثاني من آذار 2013 على مجموعة من المبادئ الأساسية المتعلقة بالانخراط الديموقراطي، والتي كان من أبرزها ضرورة تبني منهج الحوار الصادق والمنفتح والبنّاء والتوصل إلى حلول توافقية، وكذلك الحال في الورقة النقاشية الرابعة الصادرة في الثاني من حزيران 2013 والتي أشار جلالة الملك من خلالها إلى أن الهدف الأساسي من الاصلاح هو تعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار، وأن من أهم متطلبات التحول الديموقراطي تعزيز المجتمع المدني ودوره في مراقبة الأداء السياسي وتطويره نحو الأفضل، عبر ترسيخ الثقافة الديموقراطية في المجتمع.

انطلاقاً من أهمية الحوار الوطني الذي دأب جلالة الملك على التأكيد عليه مراراً وتكراراً، وانسجاماً مع كتاب التكليف السامي، الذي أكد على ضرورة إطلاق حوار وطني بالتنسيق مع مجلس الأمة بمشاركة الأحزاب والنقابات ومختلف مؤسسات المجتمع المدني، لإنجاز مشروع قانون ضريبة الدخل، جاء إعلان رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز عزمه على عدم تكرار الأخطاء السابقة، واللجوء إلى نهج الحوار الوطني، في خطوة شكلت عنواناً لمرحلة جديدة يسود الاعتقاد بأنها في الاتجاه الصحيح، ليس بخصوص القانون المعدل لقانون ضريبة الدخل فحسب، وإنما في كافة القضايا المهمّة والمفصلية، ولعل ما قامت به الحكومة من تواصل مع مجلس النواب واجراء الحوار مع الكتل النيابية في العديد من المسائل، يشكل تأكيداً على عزم الحكومة الحالية ترسيخ هذا النهج، بخاصة وأن التواصل مع مجلس النواب جاء قبل تقديم البيان الوزاري وجلسة التصويت على الثقة، وعلى نحو شكّل اختلافاً عما كان متبعاً من الحكومات السابقة.

من هنا فقد كان من الضروري التأكيد على مفهوم الحوار الوطني الذي أراده جلالة الملك، والذي ينطلق من الاجماع على حبنا للوطن الذي لا شك فيه ولا رهان، فالحوار الوطني قوامه تبادل الرأي في القضايا المهمّة بين مختلف فئات الشَّعب ومكوناته، عندما تنشأ اجتهاداتٌ وآراء مُختلفة متعارضة فيما بينها، لذا لا بُدَّ من اعتماد سياسة الحوار بهدف الوصول الى الحقيقة والخروج برأيٍ توافقيٍّ يحقق المصلحة العامة، والابتعاد عن الجدال الذي يقوم على المنازعة ليس بهدف إظهار الحق، إنّما لإلزام الطرف الآخر بالتنازل عن رأيه، بأسلوب العناد والتمسّك بالرأي والتعصّب، وللحوار الوطنيّ آدابُه التي تجب مُراعاتها، وتترتّب عليها نتائج إيجابيَّة تنعكس على الشكل الوطني، والتي من أهمها احترام الطّرف الآخر، بحيث يَجِب أنْ يكون الحِوار بين الأطراف قائِماً على احترامِ بعضهم البعض والتحدّث بِأسلوبٍ وعِبارات لائِقة، كما يتعين أنْ يكون كل طرف مُخلِصاً ولَدَيه هَدَف واضِح من الحِوار وهو الوُصول لِلحقيقة، بعيداً عن الرّياء وإظهار النّفس أمَام الآخرين.