برحيله... يطوي «الصاغ الأحمر» خالد محي الدين، صفحة «الضباط الأحرار», الذين أحدثوا تحولاً نوعياً في المشهد العربي بعد نكبة فلسطين التي نعيش ذكراها «السبعين»، بعد أن اطاحوا نظام فاروق الفاسد ودشّنوا مرحلة كنس الاستعمار الغربي عن بلاد العرب، ومدّ يد التعاون والشراكة مع قوى التحرّر والتقدم في العالم, لمقاومة مدّ الغزوة الاستعمارية التي أصابت نجاحاً بقيام دولة العدو الصهيوني على أرض فلسطين وتشريد شعبها. والتي لن تكتفي بدور المخفر المتقدم للاستعمار الغربي في منطقتنا, بل ستكون مخلب قط لغزو مصر «الجديدة» التي كرّستها ثورة 23 يوليو, ولتواصِل مشروعها الإستيطاني الإحلالي الكولونيالي, وارتكاب جرائمها وشن حروبها على دول الجوار العربي كي تغدو قوة إقليمية كبرى تحظى بدعم غير محدود من قبل الامبريالية الأميركية بعد سقوط امبراطورية الشر البريطانية والفرنسية إثر العدوان الثلاثي في العام 1956، وليكون عدوان 5 حزيران 1967, بداية عصر الأسرلة والتصَهّين الذي تتواصل شروره بضراوة, ضد كل ما هو عربي وتقدمي وتحرري ينشد العدالة ويقاوم الظلم وينادي بمقاومة المحتَلّ.
خالد محي الدين، ضابط سلاح الفرسان، الذي أسهم في إنجاح ثورة 23يوليو، كما كل أذرعة الجيش المصري المثخنة بالجراح والمسّ بكبريائها بعد هزيمة الجيوش العربية أمام عصابات الإرهاب الصهيونية، هو أول من دعا رفاقه في الثورة العودة الى ثكناتهم, ومَنْ أراد منهم العمل بالسياسة فعليه خلع بزته العسكرية والإنخراط في لعبة السياسة. فيما تنحصِر مهمة الجيش في حماية البلاد ومواجهة المشروع الصهيوني, الذي لن تكون مصر.. دوراً ومكانة في منأى عن أطماعِه ومؤامراته. فكانت الأزمة الأولى في «كتاب» ثورة يوليو, وحملت اسم «أزمة سلاح الفرسان» في العام 1954 ليخرج بعدها خالد محي الدين من مجلس قيادة الثورة, منسجماً من قناعاته, رافضاً أي تبريرات أو محاولات للتأجيل أو التسويف. وإن كان من الانصاف القول انه بدا في تلك الفترة الحرِجة, «حالِماً» أكثر مما كان واقعياً في إدراك حجم المخاطر والمؤامرات التي كانت تُواجهها «الثورة». سواء في ما خصّ المستعمِر البريطاني الذي كانت قواته ما تزال تحكم قبضتها على «المحروسة», ام في معالجة أزمة القصر وما كان محمد نجيب (الذي صدّق أنه مُفجِّر الثورة وزعيمها)، يسعى إليه بهدف اقصاء جمال عبدالناصر، وإبقاء خطوطه مفتوحة مع بقايا نظام فاروق وقيادة حزب الوفد، والأخطر من ذلك هو ما بذلته جماعة الاخوان المسلمين المصرية, لاختِطاف الثورة وادّعاء «أبوّتها» وزعم انتماء عبدالناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى «الجماعة», وهو ما ثبت زيفه.
صاحبنا الراحل الذي لم يخرج عن مبادئ الثورة ولم يدّع لنفسه دوراً لم يقم به ، ولم يتهرّب من مسؤولياته أو يسعى للبقاء في الدائرة «الرمادية» عشية الثورة، كما فعل أسوأ أعضاء هذه القيادة, وصاحب الدور الثانوي وإن شئت المشبوه وهو أنور السادات، بقي(محي الدين) ملتزِماً قناعاته وغادر عضوية مجلس قيادة الثورة دون قطيعة, وخاصة بشرف دون اسفاف, ولم ينزلق إلى الردح والفجور في الخصومة, أو اختراع الأكاذيب ونسب البطولات إلى نفسه, على النحو البائس الذي فعله خصوصاً السادات وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة, وبخاصة بعد رحيل جمال عبدالناصر و»استثمار» نكسة حزيران, لإرسال رسائل الى واشنطن وعواصم الغرب الاستعماري، كما فعل ابن عمه زكريا محي الدين, المعروف برجل الغرب في مجلس قيادة الثورة، وإن كان محدود التأثير والدور, نظراً لهذه الارتباطات التي دفعت عبدالناصر إلى ترشيحه «خليفة»له بعد تنحيه في الثامن من حزيران ,67 وكان (عبدالناصر) أرسله إلى واشنطن خلال الازمة التي سبقت عدوان حزيران, لكن الضوء «الأميركي» الأخضر صدر من ليندون جونسون, وقرار شن العدوان قد اتُّخِذ باختيار الخامس من حزيران موعداً للتنفيذ.
صحيح أن خالد محي الدين صاحب الكتاب الأكثر رصانة وصدقاً وموضوعية الموسوم «الآن اتكلم»، الذي اصدره قبل ربع قرن (1992) لم يغادِر مبادئ ثورة 23 يوليو, ولم يُحدِث قطيعة مع زعيمها وبقي وفيّاً لمبادئها. لكنه أيضاً ودائماً انحاز إلى الديمقراطية، قيمة وممارسة وطريقاً انجع لمواجهة التيارات الظلامية والرجعية داخل مصر وخارجها, واختار «الصحافة» منبراً ووسيلة لنشر الوعي والإضاءة على الأحداث، وهو ربما لفرط هيامه بالمنافسة الشريفة، اغتنم فرصة فتح السادات الأبواب لديمقراطية عرجاء عبر بدعة اسماها «المنابر», حاصِراً اياها في منبر يساري وآخر وسطي وثالث يميني، فانخرط (محي الدين) في جهد مكثف لانشاء منبر اليسار أسماه: «التجمع العربي الوحدوي» وخاض الانتخابات البرلمانية وفق قوانين انتخاب خاضها «ترزيو» الغرف السوداء، وتعرّض الى اتهامات بالشيوعية وغيرها ممن تجد لها أصداء سلبِية لدى الجمهور, إلاّ أنه واصل الفوز بثقة أبناء دائرته الإنِتخابيّة ، في الوقت ذاته الذي عارض فيه علناً وبشراسة خطوات السادات الغادِرة لعقد سلام منفرد مع إسرائيل, فرَفضَ الالتقاء به أو قبول دعوته لمرافقته, وكان التجمع ومطبوعاته وخصوصاً جريدة «الأهالي» ومجلة «اليسار» ومجلة «أدب ونقد» الثقافية بالمرصاد, ولم يقع – لفرط حكمته–في أكذوبة الانتخابات الرئاسية في عهد حسني مبارك, لقناعته انها مزيّفة ومزوّرة ، فقامت أجهزة مبارك في العام 2005 بتزوير الانتخابات «البرلمانية» في دائرته لصالح مرشح الاخوان المسلمين, وكانت فضيحة سياسية وأخلاقية بـِ»جلاجل» لنظام, كان في طور الاحتضار الى ان كنَّسَته ثورة 25 يناير, التي عاش صاحب كتابيّ «الآن اتكلم» و»الدين والاشتراكية»... ليراها.
لِترقُد روح أيقونة ثورة 23 يوليو وضميرها الحيّ, بحِسِّه الديمقراطي ووطنيته وعروبيته النقيّة وفكرِه التقدمي....بِسلام.
kharroub@jpf.com.jo
مواضيع ذات صلة