أبواب

نعناعة :إعلامي أردني حلّق في حدائق المسرح والرسم

مؤسس مجلة و نادي «هواة الفنون» عام 1965

ابواب -وليد سليمان

الاعلامي الأردني والكاتب المسرحي والصحفي والرسام « احمد نايف نعناعة « المولود بجبل اللويبدة في عمان عام 1938 ، هو شخصية معروفة في الوسط الثقافي والفني على الساحة الاردنية .. فقد كان واحداً من أشهر رؤساء تحرير المجلات الاردنية وهي (مجلة هواة الفنون) والتي ظلت تصدر منذ ان رئس تحريرها عام 1965 وحتى نهاية عام 2011 ، كذلك ترأس ( نادي هواة الفنون) التي صدرت عنه هذه المجلة الفنية الاردنية في تلك الفترة الطويلة الماضية .

ونايف نعناعة الدارس للحقوق في دمشق عام 1963 عمل رساماً في دائرة الآثار الأردنية العامة ثم مشرفاً فنياً إدارياً وعمل مستشاراً إعلامياً لعدد من المؤسسات والدوائر الحكومية الأردنية لفترات طويلة من السنين سابقاً .

وكان الفنان نايف نعناعة قد كتب مئات المقالات والمواضيع الثقافية والفنية والتراثية في مجلة هواة الفنون، عدا عن تأليفه عشرات المسرحيات التي أُخرج بعضها ، ومُثلت بالإشتراك مع عدد من مشاهير الفن الاردني على خشبة نادي هواة الفنون بجبل اللويبدة .. والذي كان مَعلماً نادراً ومتميزاً في ذلك الزمان . وقد إمتدت شهرة هذا النادي الفني الثقافي إلى كافة أنحاء المملكة الاردنية الهاشمية .

مجلة هواة الفنون

وقديماً شقت هذه المجلة الشهرية طريقها في حقل الثقافة والفنون والإعلام وكانت بالقطع المتوسط الذي سارت عليه طيلة سنوات صدورها.

و احتوت أعداد المجلة التي مرَّ على ظهورها أكثر من (50) عاماً على ما كان يلبي رغبات القراء الأردنيين من تحقيقات صحفية حول قضايا الفن الإذاعي والمسرحي والسينمائي والإبداع التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى والغناء , إلى جانب مقالات وزوايا وأخبار النجوم المحليين والعرب والأجانب , مدعمة بالصور والكاريكاتير والتعليقات النقدية.

ورصدت مجلة هواة الفنون العديد من موروث عمان في حقول العمارة والبرامج الإذاعية وصالات السينما وأسواق وشوارع وباحات عمان , والتعريف بالعديد من الشخصيات والعائلات الشهيرة التي تقطن سفوح جبال عمان وإهتماماتهم.

وعاينت المجلة الكثير من المشكلات في الحياة الفنية الأردنية من بينها موضوعات: المسرح بين الفصحى والعامية، والتربية الفنية وواجبات المدرس، والتلفزيون ، إضافة إلى تسليط الضوء على تجارب فنية أردنية تعود إلى الرسام التشكيلي مهنا الدرة والممثل نبيل المشيني والمطرب فيصل حلمي ونبيل صوالحة والمنتج السينمائي غازي هواش وسواهم الكثير .

واهتمت صفحات المجلة التي كانت تصدر شهرياً بالأخبار العلمية والاجتماعية والموضوعات الأدبية والترفيهية , لاسيما بتلك القصص المتسلسلة بقلم نعناعة التي تدور حول العلاقات الإنسانية والمشكلات الاجتماعية على الساحة الاردنية.

وجذبت صفحات المجلة أقلام كثير من الأسماء اللامعة المهتمة في جوانب من الفعل الإبداعي آنذاك من بينهم: بريهان قمق والفنان صالح أبو شندي وصالح السقاف وإبراهيم السمان وجميل أبو قورة وجوفر حداد وجمال نقاوة وخضر نعيم وفرحان الزعبي ... و غيرهم .

ولم تكن مجلة (هواة الفنون) هي الأولى في الأدبيات الفنية بالمملكة الاردنية بل سبقتها مجموعة إصدارات متنوعة - لكنها لم تعمر سوى أشهر او سنوات قليلة - !!.

لكن مجلة هواة الفنون ظلت حريصة طيلة سنوات صدورها الطويلة بأن تكون صدى لحالات في المشهد الفني الأردني الذي أثمر لاحقا على طاقات تبوأت مكانتها المرموقة في سائر ميادين الفعل الإبداعي المحلي.

إعادة إصدار مختارات من المجلة !

ومنذ سنوات قليلة في العام 2014 عاود الفنان و الباحث الدكتور نايف نعناعة إعادة إصدار مختارات من مجلته (هواة الفنون) بجهود ذاتية، وهي المجلة التي طالما سدت فراغاً بالمكتبة المحلية بموضوعاتها الثقافية والفنية والاجتماعية .

ويشير نعناعة الى خطوته الجديدة بإعادة إصدار بعض أعداد مجلته (هواة الفنون) هذه الأيام بتذكر الماضي حيث يقول :

إن نصف قرن من الجهد الممتع في سبيل إمتاع القارئ بأحلى الكلام وأسمى مراتب الوجدان في تلك الفترة الماضية جاء وليد التطوع .. ولعل الحافز الأكبر وراء إعادة اصدار بعض الاعداد من إرشيف المجلة , كان بحكم الحنين والشغف ولإستعادة العديد من تلك الكتابات التي ظهرت في الماضي .

وقد احتوى أحد الاعداد المُعادة الصادرة حديثاً عن لجنة الفن الحديث معالجة نقدية لشعراء الغزل العرب .. عن أشعار تُبين أحوال ليلى وبثينة وقيس بن الملوح وعمر بن ربيعة وحبيب بن الرومي وأبي فراس الحمداني والشريف الرضي وصفي الدين الحلي وصولاً الى شعراء الاندلس مثل ابن زيدون .

ومن مختارات العدد مقالات ونصوص وقصص ومشهديات ورسوم كاريكاتيرية واعلانات لمنتجات واخبار وتعليقات رياضية وحكايات عن نجوم تلك الحقبة القديمة .

مذكرات نايف نعناعة

ومن كتاب مذكراته المخطوطة بعنوان( نزهة بين الحاضر والماضي ) نقرأ للفنان والكاتب والصحفي نايف نعناعة بعض ما جاء فيها تحت عنوان (من نحن ومن أين) ما يلي :

أصل عائلتي من مدينة صور الساحلية في جنوب لبنان , وكان جدي لأمي إمام أهل السنة والجماعة وسبق لجدي الأكبر الشيخ عبد الله النعناعي قد هاجر من هذه المدينة في أوائل القرن التاسع عشر إلى مصر والتحق بالأزهر الشريف وكان من علمائه البارزين, وانتشرت ذريته حتى وصلت مدينة الطفيلة الأردنية.

ناظر المحطة!

وفي العشرينات من القرن الماضي تزوج أبي من أمي واغترب بها على غير رضا من أهلها.. وكان شاباً طموحاً متوقد الذكاء يجيد اللغة التركية بطلاقة , فعمل بالخط الحديدي الحجازي بوظيفة ناظر محطة وكان له ملابس تشبه زي الضباط .

وكانت والدتي المتدينة تصاحبه في تنقلاته بين محطات عمله في دمشق ودرعا وسمخ وعمان ومعان والمدينة المنورة , تشاركه أيامه الحلوة والمرة.

وعندما توقف الخط الحديدي الحجازي وسُرح موظفوه ومنهم أبي , ألقت بنا المقادير للإقامة في عمان عاصمة - إمارة الشرق العربي آنذاك - كما كانت تظهر هذه الأسماء جلية على جوازات سفره حيث سبق وأن عمل ناظراً بها.. وكان لنا شرف العيش والولادة على أرضها والشرب من مائها والترعرع بين أحضان وديانها وجبالها.

ولما استقر الحال بأبي عمل كاتب محكمة بين عمان وإربد والسلط , لتميزه بحسن الخط ثم درس القانون وامتهن المحاماة. وكانت مرافعاته في القضايا المدنية كما في الشرعية يستشهد بآيات من الذكر الحكيم. وكان يأبى أن يتولى قضايا غير محقة أو لا أدلة تدعمها .

أب صارم ومحب للفنون !

كان والدي في نهاية كل أسبوع يستحضر جدائل الكنافة من محل حلويات «المنها» - القريب موقعه من المسجد الحسيني وسط البلد في عمان - لتقوم والدتي بصناعة الكنافة المنزلية اللذيذة بالجبنة و تحليتها بالقطر والسمن البلقاوي .

ثم يطلب والدي من إخوتي الخمسة في المساء تمثيل المواقف الفكاهية المضحكة , التي كانت تشير الى تعامل أهل البلد مع بعضهم البعض , وهم من الشراكسة والشوام والبدو والوافدين من المدن المجاورة .. فيصنعون اسكتشات فكاهية فورية وحوارات مباشرة مفتعلة , دون تحضير فتضحكنا جميعنا وتشيع البهجة والسرور بيننا.

و أبي هو أول من إقتنى راديو انجليزي فخم BYE من بين المجاورين نظير أتعاب قضية ! وكان المجاورون يتحلقون حول هذا الراديو, وكان منهم معالي الدكتور زيد حمزة وزير الصحة السابق .

العزف على العود والكمان!

وكان اثنان من إخوتي : الأكبر ومن يليه يجيدان العزف على العود والكمان فيعزفان بين كل مشهد وآخر المعزوفات الجميلة والدارجة مثل (نعم سيدي) و ( وبنات المكلا ) ومونولوج (مات وعيونه بتطلع على الستات ) وغيرها.

وكانوا يطلبون من أخي الأصغر أداء رقصة الشركس المشهورة التشاشان التي تعلمها من أصدقائه الشراكسة , ومن استراق النظر إلى أدائها في الفنطزيات التي كانوا يقيمونها .

فكنت تسمع صوت الأوكرديون ينتقل صداه من جبل إلى جبل مع ما يصاحبه من تصفيق جماعي حاد ومستمر طيلة الرقص لتحفيز الراقص, الذي يليه قبل أن ينزل إلى الحلبة مع لفظ المحيطين بكلمة تسس تسس تسس إلى أن ينتهي!.

كانت أيام أحلى من العسل ! وكان في ختام السهرة يعزف شقيقاي السلام الأميري.. عاش الأمير.. عاش الأمير وهو من نظم دولة الشاعر عبد المنعم الرفاعي.

شيوع حلاوة هذه السهرات!

كانت هذه السهرات قاصرة على أسرتنا الصغيرة , فعلم بها أحد القضاة صدفة فدعاه أبي إلى حضور إحداها بعد أن أخلى والدتي منها , وتبعتها أنا إلى غرفة المطبخ حيث إعداد الطعام لهم لنسمع منها ونسترق النظر!.

وشاع خبر هذه السهرة بين القضاة ورؤساء المحاكم فكان لابد من دعوة بعضهم وتلبية رغبتهم.. وكان يرافقهم في حضورها علية القوم.

ومن بين هؤلاء اللواء أحمد صدقي باشا (أبو عصام) الذي كانت تربطه بأبي صداقة شخصية متينة تعززها إجادتهما اللغة التركية والدردشة بها!

وكان يأتي إلى السهرة بابتسامته العريضة وبزته العسكرية الأنيقة المميزة والمحلاة بالنياشين, ويبرع بالرقصة الإنفرادية (الشارلستون) عندما يستبد به الطرب, بحركاتها الهندسية الرصينة, وأنا و والدتي نتناوب متابعتها باستراق النظر من شق الباب وخرم المفتاح .

ومن مفارقات أبي كان افتتاح السهرة بتلاوة من الذكر الحكيم متباهياً بصوت أخي الأوسط البديل عني في الأزهر الشريف فيما بعد!.

وقد حضر (الباشا) مرة ومعه قائد سلاح الجو الإنجليزي مستر Topping فسر الحاضرون بقدومه, ومخاطبته بما يعرفونه من مفردات إنجليزية بسيطة نطقها غير سليم , كان يثير الضحك ويضفي المرح وخاصة عندما كان ينطق بها (أبو طلعت) قرب الباشا بلهجته الشامية المحببة هاو هاو آريوووه ! .

وفي السهرة التي تلتها أحضر مستر توبنج زوجته الإنجليزية وكانت المرأة الوحيدة بين مدعوي السهرة الرجال, وهي ترتدي الافرنجي بكامل زينتها المفرطة مما حدا بأخواي العزف على العود والكمان بحماس وبراعة , وهي تحاول تقليد الراقصات وما يقمن به من حركات!!.

وكان حضورها قد (رطب) جو السهرة وزادها بهجة وسروراً, وفرح قلوب حاضريها ولسان حالهم يقول: هكذا النسوان وإلا بلا ! .

روح الفن وسينما البتراء !

ويتابع نعناعة سرد مذكراته ومنها كذلك قوله :

ومن خلال هذا الجو المفعم بالفن والمرح تعمقت روح الفن في داخلي وخاصة بعد أن كان يصحبني إخوتي إلى السينما- سينما البتراء العتيدة – التي كانت تقع قرب سوق السكر وسط البلد عمان , والتي أدهشتني أفلامها وجعلتني أتمنى أن أكون أحد أبطالها!.

إلى الأزهر الشريف..

وعندما أنهيت دراستي الثانوية وكنت متعلقاً بالفن وأفقه الواسع , فقد رأى والدي أن يوفدني إلى مصر لكثرة حديثي عنها وحبي لصحافتها وأفلامها لأتعلم في الأزهر الشريف أصول اللغة وفقه الدين, ولأنه الأسهل في القبول والأحرص على طلابه من الإنزلاق في الفتنة والفساد ولعله الأرخص في النفقات!.

وقد فرحت جداً بهذه الفكرة لأنني سأجمع بين الدراسة والفن في أرض العلم والفن. وقد أدرك إخوتي ما يدور في خلدي وعرفوا فشلي المؤكد الجمع بينهما!! فاستعطفتهم لإقناع والدتي بالسفر , وهي الأم التي ترفض اغترابي!.

وقد اضطررت بعد محاولات عدة خداعها بإحضار ثلاثة شبان من جيلي وربما أصغر, وأوهمتها بأنهم ينوون السفر إلى مصر للالتحاق بالأزهر مثلي.. فصدقت ووافقت مكرهة بعد رجاء شديد وتقبيل يديها ورجليها .

ملتقى هواة الفنون!

و فور الانتهاء من دراستي الثانوية وقبل اغترابي والتحاقي (بالأزهر الشريف!) كنت أجتمع ورفاقي الطلبة وأبناء الجيران , في إحدى غرف التسوية الفارغة الواقعة تحت بيتنا في جبل اللويبدة في عمان , ونقوم بتقليد وتمثيل مسرحيات كوميدية مرحة تحت مسمى ملتقى هواة الفنون!.

وكنا أحياناً نعرض إنتاجنا المتواضع في قاعات المراكز الثقافية الأجنبية في عمان التي كانت ترحب بنا وتشجعنا بدعوات مجانية , و كان أغلب الحاضرين فيها من أهل الممثلين وذويهم , مما أدى إلى اشتهارنا في الأوساط الفنية والاجتماعية في عمان قديماً .