أبواب

فينان.. تغفو على النحاس!!«1»

بوح القرى ..

كنت هناك.. بين فيض من الجمال، وأعناق الجبال.. والجنوب عباءة مرقّشة بخيوط الشمس، تزينها الآن قطرات مطر تزيد سحر اللوحة المُشكّلة من شمس حنونة، وغيوم خجولة، وقطيع أغنام يسير بهدي الراعي، كأنه سطر على صفحة من رمل..

كنت هناك، بعد أن مشيت كل المسافة من عمان، نحو البحر الميت، في الغور، ثم جنوبا، حتى وادي عربة، وحين وصلت قرية قريقرة، سألت أين هي فينان مني، قالوا على مسافة عدة كيلومترات، وكان معي صديقي الدكتور نائل العدوان، رفيقي من عمان، وفي قريقرة، انضم الينا الفنان الفوتوغرافي بادي سلامة بن سرور السعيديين، دليلنا الجميل، من أبناء وادي عربة، وكذلك سليمان غيث السعيديين (رئيس ديوان بلدية قريقرة وفينان).

كنت هناك.. وكان القرار بأن نستقل سيارةالبلدية ذات الدفع الرباعي، لكون الطريق الى قرية فينان ترابية، ووعرة، وتحتاج الى سيارة مرتفعة، وقوية، لتتجاوز الصخور، والحجارة، والحفر، والأتربة، في الطريق الذي يوصل اليها.

المسير إلى القرية

الآن نسير الى فينان، والطريق وعر، وكلما مررنا على مكان مهم توقفنا عنده، مرة عند طاحونة ماء، ومرة قرب مقبرة قديمة، ومناجم النحاس، والبركة الرومانية القديم، وهناك قرية أثرية، هي فينان الأقدم، وسرنا في الطريق مكملين، حتى كانت استراحتنا في نُزل فينان الشهير، حيث جلسنا هناك، وكان كل العاملين في الفندق من أبناء المنطقة، فتحدثوا لنا كثيرا عن فينان، والسائحين الذين يتوجهون الى هذا المكان طلبا للسكون، ولمناجاة الطبيعة، وللتفاعل مع البيئة.. تحدثوا، فانفتحت أبواب تاريخ وذاكرة وواقع فينان، من خلال تلك الجولة في المكان، وحديث الأهل هناك عن نبض معتق يسكن في فينان، وهنا يشار الى قرية فينان الأثرية القديمة، وأيضا قرية فينان الجديدة والتي يوجد فيها حوالي 450 نسمة يشكلون تعداد السكان المقيمين في هذه القرية.

تداعيات الاسم

أحاول أن أتتبع مسارات معنى اسم فينان، وهنا سأبدأ بما كنت قد مررت عليه أثناء الكتابة في بوح القرى، عن قريرة قريقرة واسمها، إذ وردت الإشارة هناك إلى أن اسم قريقرة القديم هو فيدان/ فيدون، أو (افدان كما يرد في اللفظ الشعبي)، وهو ملك قديم يحمل ذات الاسم، فارتبط اسمه بالمكان (قريقرة)، وهذا الملك له شقيق فينون كان يحكم في المكان القريب منه، واسمه ارتبط به ذاك المكان الذي صار هو فينان، وبهذا تكون قريقرة وفينان، هما قريتا فينان وفيدان أو فينون وفيدون.

ولكن في كتاب (المشترك السامي في أسماء ومعاني المدن والقرى الأردنية) للباحث محمود سالم رحال، تماهي مع الرواية الشعبية، تحت عنوان فُونُون، حيث يشار هنا إلى أن «فونون: من مواقع العهد القديم في أرض أدوم، وردت باسم فونون. ويعتقد أنها فينان، والظاهر أنها تحمل اسم الأمير الأدومي (من بني عيسو)، فِينُون».

أما فينان، في معجم المعاني الجامع، وحين ترد برسم فَينان (اسم)، فيكونالمعنى على النحو التالي: «الفَينان: ذو الأفنان. شجرٌ فينانٌ، وشَعرٌ فينانٌ: طويل حَسَن».

وفي المعجم الوسيط: «الفينان: الحسن الشعر الطويله، وهي فينانة. ويقال شعر فينان: طويل. والفينان: ذو الأفنان. يقال: شجرٌ فينان، وشعر فينان: طويل حسن.

حديث الآثار

وقرية فينان تقع ضمن وادي فينان الذي يوجد على بعد 100 كم جنوب البحر الميت، محاذ لمحمية ضانا. ويوجد فيه صخور نحاسية بكميات كبيرة، ويقع في منطقة تدعى وادي عربة محاذ لمنطقة القريقرة.

وحدود القرية كما أشار الى ذلك أهل فينان، على النحو التالي: يحد فينان من الغرب قرية قريقرة، ومن الشمال محمية ضانا، ومنالشرق والجنوب جبال الشراة. ولتكون الصورة واضحة، لا بد من تتبع أهمية وادي فينان، عبر التاريخ، إذ يشار إلى أن تم اكتشاف آثار وادي فينان في عام 1996م، حيث أجري فيه أربع مواسم من الحفريات عامي 1997م و 1998م، وكشفت الحفريات في الخندق الأول عن مبنى دائري جدرانه مبنية من الحجارة فوق الأرض مباشرة، أما في الخندق الثاني فقد تم الكشف عن مبنى دائري جدرانه مبنية تحت سطح الأرض، يحتوي على أرضية ومدفن محفور في الأرضية، وعثر داخل المبنى على مجموعة من الأدوات الحجرية والصوانية. ودلت مخلفات العظام الحيوانية على أن سكان الموقع اعتمدوا على صيد الماعز البري، والثعلب البري، والطيور، واعتمدوا على جمع والتقاط النباتات والحبوب البرية كالشعير. كما أكتشف فيه أقدم منجم لتعدين النحاس.

الطريق القديم

وفي مرجع آخر، وسياق مختلف، حول أهمية هذه المنطقة، نجد أنه يشار الى فينان، ووادي فينان، وفينون، في موقعين في كتاب (تاريخ شرقي الأردن وقبائلها)، لفريدريك ج بيك، حيث يشير في الصفحات الأولى من الكتاب الى علاقة المصريين بشرق الأردن، فيقول: «لم يقم أي دليل على احتلال المصريين شرقي الأردن، ولكن مما لا ريب فيه أن مدنيتهم نفذت اليها ولعل السبب هو الاتصال التجاري بين البلدين، فقد اكتشف في سحاب ناووس مصري يرجع بتاريخه الى حوالي سنة 1300 ق.م. واكتشف قرب الكرك حجر نقش عليه رموز مصرية قديمة لم تحل بعد. احتل المصريون القسم الأعظم من سيناء (حيث يكثر معدن النحاس) في عهد السلالة الأولى (3400-2980ق.م)، وقد عثر على قارورة فخارية مصرية قرب منجم نحاس قديم يقع شمالي العقبة. ويحتوي وادي الفينان، أو فونون كما تسميه التوراة (في سفر الاعداد، الاصحاج 33 والعدد 42)، الواقعي شرقي الشوبك(!!)،على أدوات نحاسية عديدة وبقايا مستعمرة مصرية كبيرة. واكتشف في أدوم جنوب غربي البصيرة، وفي المناعية الواقعة في وادي عربة عدة أدوات من هذا النوع. وبدون حفر وتنقيب لا يمكنالجزم أن المصريين ارتادوا هذه الأماكن طلبا لمعدن النحاس فقط، ويقول يوسيبوس سيزاريا (260-360 ب.م.) في الانوماستكون أن الحكومة المصرية القديمة كانت ترسل مجرميها الى وادي فينان ليحفروا منقبين على النحاس. يتضح إذن أن هذا الوادي إذا لم يكن قد استثمر في عهد فراعنة مصر فقد استثمر في أيام الرومان....».

أماالموقع الثاني الذي ترد فيه فينان، في كتاب تاريخ شرقي الأردن وقبائلها، فهو بداية الفصل الخامس، الذي يبحث في أحوال شرقي الأردن في أواخر الاحتلال الروماني وقبيل الفتح الإسلامي، وفيه يشار إلى أنه «لما قدم الرومان ببذخهم وثرائهم راجت التجارة مع جنوبي الجزيرة، وتقدمت تقدما محسوسا، فالبضائع الهندية كانت تنقل بحرا الى ميناء يودامون «عدن»، ومنها تحمل برا الى الشمال مارة في تيماء ومدائن صالح، حيث تكثر الآثار النبطية. كان بين مدائن صالح وبطرا طريقان: الأولى تمر من تبوك وجبال حسما قاطعة جبل رم، حيث اكتشف كثير من الهياكل والنقوش النبطية. والأخرى تسير محاذية لساحل خليج العقبة الى أيلة (العقبة)، ومن أيلة كانت تتشعب الطريق الى شعبتين، الواحدة تخترق وادي عربة مارة بغرندل حيث توجد الآثار النبطية بوفرة الى بطرا، والأخرى تخترق وادي إثم وتمتد الى سهول الكويرة، فتتصل بالطريق التي كانت تربط رم ببطرا مارة بالبلدة النبطية الحميمة. ومن بطرا كانت الطريق تمتد الى غزة أو الى أي ميناء على البحر المتوسط أو الى مصر مارة بوادي عربة ووادي الفينان وخربة النحاس وعين حزب وخلسة..».