ورد في لسان العرب أن الجُفْرة، بضم الجيم، الحفرة الواسعة المستديرة، والجفر، بفتحها: البئر الواسعة التى لم تُطوَ، وقيل: هي التي طوي بعضها، ولم يطو بعض، والجمع: جفار، والجفرة أيضاً: سعة في الأرض مستديرة، والجمع جفار.
وذكر ياقوت الحموي الجفر، فقال: بالفتح ثم السكون، وهو البئر الواسعة القعر لم تطو. وأورد عدة أماكن تسمى بهذا الاسم، ليس من بينها جفر الأردن.
نبع الآبار
تقع بلدة الجفر فى قضاء الجفر، أحد أقضية محافظة معان، وتبعد عن مركز المحافظة إلى الجنوب الشرقي منها، فى عمق الصحراء خمسة وخمسين كيلومتراً، وفى البلدة بلدية. وتقع البلدة فلكياً على خط الطول ٣٦ درجة و١٠ دقائق شرقاً، ودائرة العرض ٣٠ درجة و ١٩ دقيقة شمالاً.
والجفر جفران، قديمة وحديثة، أما القديمة فلا زالت أطلالها تمثل معلمة التاريخ والتراث الأردني، وفيها مضافات ودارات كبيرة ذات غرف واسعة، كان يؤمها الوجهاء والزائرون والمرتحلون، وفى هذه البلدة عدد كبير من الآبار القديمة، وهى آبار مطوية، يبلغ عمق بعضها عشرين متراً، وكانت تتجمع المياه فى داخلها تلقائياً، ثم يستفاد من تلك المياه عن طريق إسالتها فى قنوات تؤدي إلى برك كبيرة يشرب منها الواردون، وترتوي منها قوافل الإبل. ويسمى أكبر هذه الآبار باسم صاحبه الشيخ محمد بن دحيلان، وقد تم تزويد البئر بمضخة آلية لتزويد البلدة والوافدين والمدرسة القديمة التي أسست في مطلع العشرينيات من القرن العشرين الميلادي بالمياه.
وتعد الجفر من أهم الواحات التي تقع جنوب شرق معان وتتميز بمياهها الجوفية، وتعد من أهم مناطق التجمعات السكنية للقبائل البدوية حيث يقيمون مضاربهم.
أما الجفر الحديثة فترجع إلى عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين الميلادي، حيث أقيمت فى البداية وحدات سكنية لتوطين البدو، ثم أصبحت بلدة واسعة، تزهو بمزارعها الخضراء الزاحفة على وجه الكثبان الرملية.
وتوجد فى منطقة الجفر جبال صوانية، منها جبل خزيمة، وجبال العاذريات، أو أم طور والرمثة، وهي جبال تحتوي على أقدم محاجر الصوان في العالم، وقد رفدت الأمم السابقة بالأدوات الصوانية مثل: المدى، ورؤوس الرماح، والسهام.
مخسف النجم
يوجد فى منطقة الجفر، ما يعرف بمخسف النجم، أو قاع الجفر. وهو عبارة عن هوّة كبيرة غائرة ومتسعة، ظن الناس أن نجماً أونيزكا قد هوى من السماء، واصطدم بالأرض في هذا المكان مسبباً هذه الهوة الكبيرة.
وقد قام الدكتور أحمد ملاعبة بدراسة (مخسف النجم) دراسة علمية جيولوجية لتفسير سببها، وذلك بعد قيامه بزيارة الموقع. وقد وصف رحلته إلى المنطقة، وعلل حدوث الخسف أوالهوة فقال:
«لقد كانت المركبة تسير بسرعة جنونية داخل القاع وكأنه مهبط طائرات، كانت الدقائق والساعات تمر بهيبة وحذر يضفيه السكون في أرض القاع، فلقد جف كل شيء ولم يبق إلا بعض الشجيرات المنتشرة هنا وهناك وبعض هياكل الجمال التي نفقت بعد أن أضناها الجوع والعطش. وقبل وصول منطقة أطلق عليها اسم السيق كونها منطقة العبور الأضيق في القاع انتصب على جانب القاع الجبل الوردي الذي تنتشر عليه صخور لها شكل الورد، والتى نتجت عن التحام حبات الرمل بمعادن البارايت لتعطى تراثاً طبيعياً نادراً لا بد من حمايته، وبعد عبور منطقة السيق باتجاه تلول (مشاش) و (غراميل حدرج) كانت الأكمات والتلال تعطي أشكال منحوتات رائعة صنعتها الرياح والأمطار عبر السنين، والتى تمثل متحفاً مفتوحاً للمنحوتات التشكيلية الطبيعية، حيث بعضها يشبه مجسمات الحيوانات أو الاطباق الطائرة أو الطيور، ولعل أبرزها مجسم يشبه نسراً بجناحين ضخمين. وحال الوصول عند الهدف (مخسف النجم) ورغم زيارة الموقع لأكثر من مرة عبر السنوات الماضية إلا أن هذه الزيارة مؤلمة لأن الهوة قد تعرضت للعبث، حيث كانت براميل كبيرة عددها كثير أراد عابث أن يتخلص منها فقام برميها بوحشية من أعلى إلى داخل الهوة، لكنها رغم ذلك ظلت زاهية بهية، ويبدو أن هناك من حاول النزول إلى أرضية الهوة عن طريق تشكيل سلم من أنابيب المياه من الألمنيوم، ولكن يبدو أن عشرات الأمتار التى أحضرها معه لم تكن كافية للنزول إلى قاع الهوة، فسقط السلم الصغير إلى قاع الهوة الفسيح دون أن يتمكن من الهبوط وتحقيق هدفه.
وبدأت رحلة دراسة هذا المشهد المحير وذلك بالهبوط على الحبال باستخدام لباس التسلق والنزول واللواقط. وبدأت أتأمل تتابعات الهوة، لقد كانت تعطى تشكيلات حلقية مستديرة يتعاقب فيها صخور جيرية بيضاء وصخور صوانية بنية داكنة وبنمط تشكيلي بديع، وقد استغرق الوصول إلى قاع الهوة المتسع نحو ساعة.
لقد بدأت الرحلة لحل هذا اللغز الغريب؛ لماذا هوت الأرض نحو الأسفل في هذا الموقع بالذات لتعطي هذه الهوة ذات الشكل الأجاصي الضخم؟ وقد استخدمت جهاز قياس المسافات الليزري (Disto-meter) لعمل مخطط مساحي للهوة، وجمعت عينات من بين ثنايا الصخور وكذلك المواد العضوية والنبات المختلطة بالأرض والصخور وأشياء أخرى كثيرة، وبعدها صعدت على الجبل إلى خارج الهوة بعد معاناة كبيرة وطويلة. وبدأت حال وصولى إلى الجامعة الهاشمية بإجراء الفحوصات العلمية الدقيقة على العينات، وبدأت أبحث فى سجلات آبار المياه والنفط التي حفرت في المنطقة عن أنواع الصخور حتى عمق أكثر من ألفي متر لعلي أجد ضالتي المنشودة والتى عادة تكون حلقات الجبص السميكة، وذلك لأنها تمثل طبقات ضعف يمكن أن تذيبها المياه الكامنة فى جوف الأرض بشكل سريع، حيث يبلغ معدل ذوبان الجبص في الماء ( ٢.٤٥ غرام في اللتر) وهو رقم قياسي ومرتفع مقارنة بمعدل إذابة الصخور الأخرى كالجيرية مثلاً.
وجعلني غياب طبقات الجبص السميكة تحت الهوة أبحث عن تفسير آخر، حيث وجدت إشارات الأمر عن توافر طبقات الصخور الزيتية (Oil Shale) وبسماكات كثيرة إضافة إلى المصائد النفطية الواقعة على امتداد وادي السرحان، وهو انهدام أو فالق صخري كبير يمتد حوالي ٣٢٥ كم من السعودية مروراً بالأردن وسوريا وحتى لبنان، ويمر بقاع الأزرق (Azraq Basin) الذي يشمل حقل حمزة النفطي الذي حفر فيه ١٧ بئرا تنتج أربعة منها أقل من ٣٠ برميلا يومياً من أصل حوالي ١١٣ بئرا حفرت لاستكشاف النفط فى الأردن كان نصيب وادي السرحان (الجفر وباير) حوالي ١٤ بئرا أعطت أربع منها شواهد نفطية قد لا تكون كافية لتسميتها بالآبار المنتجة، ولكن لربما تكون هذه هي البداية، ولعل أشهرها بئر أم لحم بالقرب من منطقة الظواين التى ينز منها النفط حالياً بكمية قليلة وهذه البئر لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن مخسف النجم.
واغتنمت بعدها فرصة زيارتي لجامعة دارم شتات الألمانية وجامعة ولاية كنساس الأمريكية لإجراء فحوصات إضافية بتقنيات عالية. لقد بدت النتائج مذهلة؛ فالسبب فى تكوين هذه الهوة هو الغازات الهاربة من المصائد النفطية أو طبقات الصخر الزيتي عبر الكسور والفوالق العميقة التي سمحت لغازات الميثان وكبريتيد الهيدروجين بالصعود خلالها، والتي ما أن وصلت عند مستويات المياه الجوفية في المنطقة على عمق مئات الأمتار، حتى أدى وجود الأوكسجين فى المياه إلى أكسدة غازات الميثان وكبريتيد الهيدروجين وبالتالي تشكيل محلول حمضي بدأ يؤدي إلى تآكل الصخور داخل الأرض، والذي مع توغل الزمن شكل هوة أو منطقة ضعف في جوف الأرض غير قادرة على حمل الصخور التي فوقها مما أدى إلى هبوط سريع لهذه الصخور لتتشكل هذه الهوة الإجاصية على سطح الأرض. وقد أكدت فحوصات تحديد الاعمار المطلقة أن الحدث لا يتجاوز عمره بضعة آلاف من السنين مما يؤكد احتمالية هبوط آخر فى المكان نفسه ربما هذه المرة لجوانب الهوة، ما قد يغير من شكلها الإجاصي الى حفرة ذات جوانب مستقيمة.
وهكذا تلاشت أسطورة مخسف النجم وأصبحت الأجرام السماوية بريئة من هذا الخسف الذي حصل، ومن الملفت جداً أن بعض المواقع الالكترونية لجامعات عالمية عريقة قد فسرت ظاهرة مخسف النجم على أنها بئر قام الأنباط بحفرها لتجميع المياه، ولعل هذا التفسير أكثر غرابة من الأسطورة الشعبية للنجم الذي هوى.
ويرى العبادي أن جفر الأردن هو المقصود بقول الشاعر:
أما والذي حج الملبون بيته
وعظّم آيات الذبائح والنحر
لقد زادنى للجفر حباً وأهله
ليالي أقامتهن ليلى على الجفر
فهل يأثمني الله أني ذكرتها
وعللت أصحابي بها ليلة النفر
وقد بلغ عدد سكان الجفر في عام ١٩٩٤م (٣٠٢٠) نسمة، بينما بلغ عدد سكان البلدة في عام ٢٠٠٤م (٥١٩٣) نسمة ينتمي معظمهم إلى عشائر الحويطات، التي ينتمي إليها الفارس العربي الأردني عودة أبو تايه.
وتتوفر بلدة الجفر على البنية التحتية من شوارع ومدارس ومراكز صحية، وغيرها، إلا أن هذه المرافق مهترئة، ولا تؤدي الغرض الذي أنشئت من أجله. فالبلدة تفتقر إلى مركز صحي حديث، وشوارع معبدة، كما تفتقر إلى تفعيل مكتب التنمية الاجتماعية الموجود فيها، وكذلك تفعيل المركز الصحي بتزويده بالأطباء الاختصاصيين، وبسيارة إسعاف حديثة.
أبواب -د. محمد عبده حتاملة
أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية
مواضيع ذات صلة