أبواب

الوشم: زينة الطيبين.. ذهب البسطاء!

يثيرون الحياة فيها، حين يأتون القرى، في مواسم يحددونها، بحسب مسارهم، وترحالهم، فيقضون في كل قرية بضعة أيام، ثم يرتحلون الى قرى أخرى.. في تلك القرية التي يمرون بها، والتي تتلهف الى غنائهم وحياتهم، تتغير أحوالها، لفترة محدودة، يدب نشاط مفاجئ فيها، إذ أن مزاج الغجر ينعكس على المكان والانسان هناك، ذلك أن كل واحد من الغجر له مهمة وعمل محدد في كل قرية، خاصة الغجريات، فبالإضافة الى اختلاف هيئتهن، وزركشة ألوان ملابسهن، تعرفهن القرى: واحدة هي الواشمة، وأخرى تضرب الودع، وثالثة ترقص، ورابعة تغني في الليل مع عازف ربابتهم، وكانوا يأخذون مقابل مساحة الحياة والبهجة هذه، كل ما يعرض عليهم: بيض، لبن، قمح، شعير، عدس، زبيب.. ألخ.

التراث الشعبي

هذا مفتتح للحديث عن الوشم، الذي كان منتشر في القرى والبادية، في الأردن، ونستلّ البوح حوله من فصل من فصول كتاب (ألوان من التراث الشعبي في الأردن)، للباحث الأستاذ طه الهباهبة، وهو كتاب مهم، مميز، اعتمد فيه المؤلف كثيرا على الرواية الشفوية، وبذلك ففيه جهد واضح في جمع تلك الرواية التي تتحدث عن طقوس هذا التراث الأردني، وتاريخه، وجوانب كثيرة من تفاصيله، من خلال مقدمة مهمة حول معنى التراث، وأهميته، وضرورة تكثيف الدراسات حول التراث وتلك الذاكرة الشعبية، وبعد المقدمة هناك أربعة فصول هي مادة الكتاب، تبدأ في الفصل الأول تحت عنوان (الحصاد)، والفصل الثاني عنوانه (الوشم.. ذهب الفقراء)، بينما الفصل الثالث فيتحدث عن (أغاني الصيد والبحر)، والفصل الرابع عنوانه (الألعاب الشعبية).

«يا بُو خِديد منَقْرَش..»

سأسلط الضوء في هذه المساحة من الكتابة على الوشم في التراث الأردني، وسأعود كل فترة من الزمان، على مداء الأشهر القادمة، على فصل من بقية الفصول في الكتاب، لنشر تلك المادة الثرية التي تتحدث عن بقية المواضيع المهمة من هذاالإرث التراثي في الأردن.

ورد في لسان العرب أن شميل قال: الوسوم والوشوم هي علامات، وقال ابن سيده: الوشم ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة ثم تحشوه النؤور (دخان الشمع)، والجمع وشوم ووشام. ووشم اليد وشما، غرزها بإبرة ثم ذرّ عليها النؤور، والاشم أيضا الوشم واستوشمه: سأله أن يشمه. واستوشمت المرأة: أرادت الوشم أو طلبته. وقال أبو عبيدة: الوشم في اليد، وذلك أن المرأة كانت تغرز معصمها وظاهر كفها بإبرة أو بمسلة حتى تؤثر فيهن ثم تحشوه بالكحل أو النيل أو النؤور، فيزرق أثره أو يصبح أخضرا.

ويشير الكتاب إلى أنه «قد عرف الأرادنة هذا اللون التراثي (المقصود هنا الوشم)، وماسوه صناعة وتطبيقا عمليا، وقد أطلقوا عليه أسماء كثيرة أهمها: الدق؛ وهو يطلق على عملية الوشم، وليس على ألوانه وخطوطه، وقد جاء في الأغاني مثل هذا الاسم:

يا مدقدق بن عمي/ روح قليبي واه يابه.

وانا عطشان اسقيني/ روس خدودك شرابه.

من يوم علمي وعلمك/ والميل ما جريته.

والميل ما جريته/ ولا سني تبسم، ولا الغالي سليته.

وكذلك أسموه النقش أو النقرشة أو المنقرش، وقد ورد في بعض المأثورات الفنية مثل هذه التسميات، كما في الأغنية التي تقول:

يا بو خديد منقرش/ يا عذاب الشقاوي.

لِفَّني في حضينك/ خلي كوبان للهاوي.

قالوا بدّل ما بدّل/ قلت ما ارضى البديلة.

كيف ابدل عشيري/ بالقلوب الهبيله».

ومن التسميات أيضا النكت، وكذل الخال، حيث يشير الكتاب الى أن «الخال نوع من التزويق عند المرأة، وقد عرف أول الأمر في العصر العباسي بشكل واضح، وقد قال أحد الشعراء أبياتا تدل على ذلك:

آه من ورد على خديك/ بالمسك منقط.

بين أجفانك سلطان/ على ضعفي مسلّط».

الراويات الحَجّات

الباحث الأستاذ طه الهباهبة، في كتابته عن الوشم، كانت مراجعه مقابلات مهمة مع سيدات كبيرات في العمر، من مناطق مختلفة في الأردن، وتم إجراء تلك المقابلات في عام 1987م، إضافة الآ أن الباحث الهباهبة كان له كتاب خاص في هذاالموضوع صدر عن وزارة الثقافة عام 1990م، وعنوانه (الوشم.. فن وعلم أم جهل ووهم). ويهمنا هنا أن نورد المراجع الميدانية، وهم الرواة الخاصين بالمقابلات الشفوية لهذا التاريخ الشفوي حول الوشم، وهؤلاء الرواة هم سيدات جليلات كبيرات السن قابلهن الباحث الهباهبة، وهن كل من الحاجة فاطمة الهباهبة (الشوبك، مقابلة شخصية بتاريخ 20/3/1987م)، والحاجة حمده العبد اللات (عمان، مقابلة شخصية بتاريخ15/2/1987م)، والحاجة منيه الختالين (مرج الحمام، مقابلة شخصية بتاريخ 19/2/1978م)، والحاجة عائشة المساعدة (قرية زمال، مقابلة شخصية بتاريخ 19/1/1987م، والحاجة حليمة الهباهبة (الشوبك، مقابلة شخصية بتاريخ12/4/1987م).

«أعشاب الغَنْج»

تشير أحاديث الراويات إلى أنه كان الوشم، حتى يكتمل على جسد الفتاة، يمر بعملية صعبة ومؤلمة، لأنها تعتمد على غرز الإبر في الجلد، وحكاية هذه الإبر، تتلخص بأن المرأة (الواشمة) تمسك بيدها أربع إبر (إبر خياطة) مضمومة الى بعضها بشكل منسق ومترابط وأمامها وعاء فيه منقوع أعشاب خضراء تسميه (الغنج)، ثم تقوم بغمس الإبر في الوعاء لترسم الأشكال التي تراها مناسبة لوجه تلك الفتاة، والذي يتناسق مع لون بشرتها، ثم تبدأ بعدها عملية الغرز السريع في حدود الخطوط التي رسمتها، وبعد أن يصل العمل الى نهايته تقوم بوضع المادة الخضراء على الوجه. وتقول الحاجة فاطمة الهباهبة، حول آلام هذه العملية: «طبعا هناك دماء غزيرة تسيل من الوجه، وأماكن الوشم، وصدقني ان الموت أهون من بداية العملية، ولكن بعد فترة يتخدر المكان الموشوم، فلا تكاد الموشومة تحسّ بشيء من الألم، ولم تعد تشعر إلا بصوت الواشمة، وهي تردد بعض كلمات الأغاني الشائعة في ذلك الزمان والتي تحفظها والدتي عن ظهر قلب».

إشارات ورموز

وتضيف الحاجة فاطمة، تفصيلات حول الوشم، ودلالاته، وأسمائه بحسب موقعه من الجسد، حيث تقول، للباحث الهباهبة، بحسب المقابلة: «انظر جيدا الى وجهي، وأشارت باصبعها نحو الخطوط، هنا تحت الشفة السفلى مباشرة من زاوية الفم اليمنى الى زاوية اليسرى بشكل أفقي، فهذا الخط يسمى (الدبيب)، ومن منتصف الشفة السفلى الى منتصف الذقن، هذا يسمى (السياله)، ومن منطقة نهاية الشفتين يمينا ثم يسارا فهذه النقاط المثلثة والمربعة تسمى (المشط)، ومن منطقة رأس الخد الأيمن والأيسر ترى الأشكال المدورة تدعى (ردعة)، وذات الأشكال الطولية تدعى (ضفدعة)، ومن منطقة التقاء الحاجبين تسمى (هلال)، ومن منطقة الجبين ثلاث حبات تدعى (النجوم)، وهي على شكل نجمة». وهناك أسماء ودلالات أخرى كثيرة، ذكرها الهباهبة في الكتاب، نقلا عن الراويات اللاتي قابلهن، ويمر في حديثه على الوشم على كافة اعضاء الجسد، وليس على الوجه فقط، إذ كان هناك وشم على اليدين والذراعين.

امتزاج اللون.. بالدم

أما عن الأدوات والمواد التي تستخدم في عملية الوشم، فهي أدوات بسيطة في متناول اليد، ومتوفرة في البيئةالأردنية طوال العام، وهي: ابر خياطة دقيقة ثلاثة أو خمسة أو سبعة، تضم هذه الابر معا، وتربط بخيط صوف، ويمكن استعمال الجير، أو العلكة، أو أي مادة لاصقة. وعاء من الفخار أو المعدن (نحاس، حديد، المنيوم) يوضع فيه السائل. المادة المستعملة للتوشيم، وهي تختلف حسب الزمان والمكان والذوق الشخصي للمرأة الواشمة، أو لأهل البنت الموشومة، وكان (الغجر) يستعملون خلطة عطارية يتم تحضيرها من عدة مواد أهمها: مرارة عنز، ملبس (حلوة)، مروحة (وهي تشبه الجبن ولكن لها رائحة كريهة)، عنزروت (وهو نوع من الأعشاب البرية)، شحبار أو شحوار أو سخام صاج الخبز أو الوعاء المعدني الموضوع فوق النار أو الشمعة، قالب نيله أو حبر صيني أزرق. وهناك نسب للخلطات حتى يتم تحديد اللون المطلوب وتركيبه.

ولا بد من أن تمتلك الواشمة شخصية قوية، وأعصاب حديدية، لتسيطر على أي موقف أثناء عملية الوشم، التي تبدأ بتجهيز كل المواد التي ستستخدمها، ثم تقوم بتحديد المنطقة المراد وشمها، وتختار لها الرسمة المناسبة لشكل البنت ولروح العصر وعمل الزمن، دون أن تتجاوز عادات الناس وتقاليدهم والظروف الاجتماعية التي يعيشون بها. ثم تقوم بعد أن حددت الألوان وجهزت الأبر، وحددت مكان الوشم، برسم الشكل المرغوب بالقلم حتى تكون لديها مساحة محددة ومحسوبة بدقة لا تحتمل الخطأ، ويساعدها على ذلك خبرتها الطويلة ومراسها الذي مكنها من حفظ كل الأشكال المرغوبة عن ظهر قلب، وتبدأ رحلة الوشم. تضع الواشمة مقدارا من اللون الذي قررت أنها ستستخدمه في وعاء خاص أمامها، ثم تمسك بديها اليمنى حزمة الإبر التي لفتها وأحكمتها بالخيط بحيث لا يظهر إلا رؤوسها المتوازنة والمتساوية في الطول. تباشر الواشمة بالغرز المتواصل على الخط المرسوم مسبقا بواسطة الابر وبشكل عمودي وسريع مع غمس الابر بالسائل بين وقت وآخر، وكلما قدرت أن كمية اللون بدأت تصبح أقل وأخف، وكلما بدأت الدماء تسيل كلما أخذ اللون بالامتزاج، ثم تقوم بمسح الدماء بواسطة قطعة قماش تمسكها بيدها اليسرى من أجل تنظيف المكان، ولكي ترى أثر الوشم بوضوح حتى تعدله أو تكمله. وفي العادة ان الواشمة لا تترك عملها إلا بعد الانتهاء منه كاملا. وبعد أن تنتهي عملية الوشم، تمسح المكان كله بقطعة قماش نظيفة وناشفة، فتشاهد بعض الانتفاخ في الجلد على طول الخطوط التي رسمتها ووخزتها بالابر فتقوم بدهنه بقليل من الفازلين أو أي مرطب متوافر لديها، وفي الأغلب تكون هي مستعدة لمثل هذه الحالات وربما لما هو أسوأ من ذلك.

عهد الوفاء والبطولة

والوشم في القرى والبادية الأردنية، ما كان يقتصر على النساء فقط، حيث أن هناك كثير من الرجال كانوا يشمون، وإذا كانت الفتيان يشمن للزينة والجمال، فللرجال أسباب ولهم دلالات وإشارات، يلخص بعضها كتاب (ألوان من التراث الشعبي في الأردن)، بأن هناك نوع من الرجال يشمون أنفسهم عن قصد ودراية وهم يعتبرون ذلك نوع من الهوى والعشق والمباهاة، وصفة ملازمة لصفات الشباب وحيويتهم ونشاطهم وعلاقتهم بالمرأة بشكل خاص، كنوع من الفتوة والرجولة، وبعض الرجال يعاهدون حبيباتهم على الوفاء والبقاء على العهد ما دام الوشم باقيا فيدق يده أو ذراعه إما أمامها أو في غيابها، كما كان الرجل يعتقد أنه إذا ما وشم يده أو ذراعه فإنه سيصبح من الرماة الماهرين متى وضع البندقية على ذراعه الموشومة.

كما أن هناك دلالات دينية وأسطورية قداسية لبعض التفاصيل في الوشم، هذا مع العلم أن الوشم كله يحمل دلالات ورموز لها مرجعية أسطورية، إذ أن الواشمة تستخدم عددا فرديا من الإبر (ثلاثة أو خمسة أو سبعة)، يفسر هذا العلامة روكس بن زائد العزيزي بأن (رقم سبعة مقدس، والمسيحيات يستعملن الخمسة لأن جراحات المسيح خمسة، والثلاثة نسبة الى الاب والابن والروح القدس). والواشمة تطلب من الفتاة أن تغطي الوشم لمدة أسبوع، فلا يراه أحد خوفا من الغيرة والحسد.