كما غنت فيروز لمدينة عمان اغنية (عمان في القلب) وأحبت نهر الاردن وغنت له الاغنية الخالدة (اردن ارض العزم).. فقد زارت فيروز القدس قديماً عام 1964 لترتل في المدينة الخالدة في مناسبة زيارة البابا للقدس، كما قام (إميل الخوري وخير الدين الحسيني) نائبا القدس بزيارة إلى بيروت ليسلما فيروز في مؤتمر صحفي مفتاح مدينة القدس من خشب الزيتون المقدس في ذلك الزمن.
الفنانة العظيمة !
يكفي السيدة فيروز فخراً، ويكفينا فخراً بها، أن يصل الحقد الإسرائيلي إلى حد القيام بحملة إعلامية شرسة ضد فنانتنا العظيمة التي ألهبت مشاعر الحب للوطن , والغضب ضد المحتلين الغزاة في نفوس المقاومين من أهل فلسطين والعرب وكل أحرار العالم بغنائها العاطفي والحماسي الوطني .
فقد كتب صحفي من صحيفة معاريف الإسرائيلية قائلاً: اسم (فيروز) يدل على البخل، فصاحبة هذا الاسم لم تعط هارون الرشيد في ألف ليلة وليلة شيئا إلا بصعوبة بالغة ! ؟ وهي بالفعل تغني في حفل عام كل خمس سنوات. واعترف الكاتب مباشرة أن صوت فيروز يشبه - أمواج من البحر العربي الذي يريد أن يغرقنا.
وأضاف قائلاً : لم احب أبدا صوتها.. انه صوت يهدر من جبال الظلام التي لم نكن لنصل إليها إلا بعد اتفاقيات السلام. إنها لا تتحرك على المسرح أمام الجمهور المتحمس, وكأنها كتلة من الملح أو الثلج !.
ثم كشف الصحفي عن سر غضبته والإسرائيليين من فيروز بقوله: أكتب هذا الانتقاد وأنا حزين فهذا يدل على أن اندماجنا في المنطقة حلم حزين, إن أغانيها تصيبني بالدوار !
ولماذا ؟! هذا لأنها تغني قائلة :
«كان في أرض !!
مريت بالشوارع
شوارع القدس العتيقة
قدام الدكاكين .
الـ بقيت من فلسطين
حكينا سوى الخبرية
وعطيوني مزهرية
قالوا لي هيدي هدية
من الناس الناطرين
ومشيت بالشوارع
شوارع القدس العتيقة
أوقف عباب بواب
صارت وصرنا صحاب
وعينيهن الحزينة
.. من طاقة المدينة
تاخدني وتوديني
بغربة العذاب
كان في أرض وكان
في إيدين عم بتعمّر
عم بتعمّر تحت الشمس
وتحت الريح
وصار في بيوت وصار
في شبابيك عم بتزهّر
وصار في ولاد
وبإيديهن في كتاب
وبليل كلّو ليل
سال الحقد بفيّة البيوت
و الإيدين السودا خلّعت البواب
وصارت البيوت بلا صحاب
بينن وبين بيوتن فاصل
الشوك والنار والإيدين السودا
عم صرّخ بالشوارع
شوارع القدس العتيقة !! «
ففي العام 1964، زارت امرأة لبنانية شابة مدينة القدس للمرّة الأولى، وكانت آنذاك تحت إدارة السلطات الأردنية. . ومشت المطربة الشابة فيروز في شوارع المدينة، فتحلّق المقدسيّون حولها، نظروا إليها كما ينظر الأطفال إلى أمهاتهم، وتوقّعوا منها ما يتوقّعه الأطفال من أمّهاتهم، أن تأخذهم تحت جناحها وتقول لهم أن كل شيء سيكون على ما يرام !! .
وتروي فيروز أن امرأةً مقدسية اقتربت منها في أحد الأحياء وحكت لها عن المعاناة من اللجوء والاحتلال، عن أوضاع القدس والناس، فكان لذلك في نفس الصبيّة أثرٌ بالغ ولم تتمالك نفسها من البكاء.
أمّا المرأة المقدسيّة، فقد هالها أن تُحزن الصبيّة بكلامها، فسارعت إلى إهدائها إناءً للأزهار تخفيفاً عنها، وذكرى من مدينة القدس التي تحبّها، كما يحب الأطفال الأمهات..و كانت هذه الصبية هي نهاد وديع حدّاد، المعروفة باسم « فيروز».
ولاحقاً، أخبرت فيروز زوجها عاصي الرحباني بما حدث معها، فكان أن كتب الأخوان ولحّنا من وحي تلك الحادثة أغنية «القدس العتيقة»، والتي صوّرتها لتلفزيون لبنان عام 1966، لابسةً الزيّ الفلسطيني والمنديل الأبيض.
ما يميز هذه الأغنية عن غيرها من الأغاني الكثيرة التي تتناول القدس، أنها أغنية شخصية جداً، عن تجربة ذاتية لمؤدّيتها، ناتجة عن تماس مع القدس والأشخاص الحقيقيين الذي يسكنون في المدينة بشكل يومي.
والأغنية تحكي عن حق المقدسيين العاديين في مدينتهم وبلادهم. نسمع فيروز تغني عن «الشوارع، الابواب، الشبابيك، الناس الناطرين، الدكاكين، العيون الحزينة عن مفردات الحياة اليومية البسيطة في المدينة.
وتغني فيروز للقدس التي لأهلها ومنهم، بعكس غالبية الأغاني التي تستحضر القدس الحلم، أو القدس الرمز، كعاصمة للعروبة ورمز للقضية ومدينة الأديان السماوية الثلاث الكبرى ومركز تاريخي مهم. لا يتطرّق كلام الأغنية إلى كنيسة المهد أو المسجد الأقصى أو إلى ألقاب القدس، أو قدسيتها .
فالقدس، وإن كانت فعلاً أرض كل هذه المقدسات ورمزاً للقضية، ولكنها في أغنية «القدس العتيقة» تذكّرنا بأنها تستحق الحرية والحب لأنها قبل كل شيء قدس الناس الذين لديهم بيوت وشبابيك، وقدس الأطفال الذين يذهبون إلى المدارس، وقدس العاملين في الأسواق والساعين وراء الرزق في دكاكينهم.
وتذكرنا بأنّ البشر هم أقدس مقدّسات الأرض، لأنهم الآن وهنا، ولا يجوز أن يكون «بينن وبين بيوتن فاصل الشوك والنار».
البيت لنا والقدس لنا
أغنية فيروز «زهرة المدائن» تبقى الأغنية الأكثر شهرة التي غنتها عن مدينة القدس :
«لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي
لأجلك يا بهيّة المساكن
يا زهرة المدائن
يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء يا درب
من مرّوا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كلّ يوم
وإنّني أصلّي
الطفل في المغارة
وأمّه مريم وجهان يبكيان
لأجل من تشرّدوا
لأجل أطفال بلا منازل
لأجل من دافع واستشهد في المداخل
واستشهد السلام في وطن السلام
وسقط العدل على المداخل
حين هوت مدينة القدس
تراجع الحبّ وفي قلوب
الدنيا استوطنت الحرب
الطفل في المغارة وأمه مريم
وجهان يبكيان وإنني أصلّي
الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آتٍ سأمرُّ على الأحزان
من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ
وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ
لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلّي
سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية
الغضب الساطع آتٍ بجياد الرهبة آتٍ
وسيهزم وجه القوّة
البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بأيدينا للقدس سلام آتٍ !!»
في القدس العتيقة
يقول الكاتب صقر أبو فخر: «لقد أنجز الرحابنة منذ سنة 1954 فصاعداً عدداً من الأغاني لفلسطين، مشبعة كلها بالحنين والتحدي والغضب، وأودعت فيروز في أغنياتها الفلسطينية ذروة ما جاد به صوتها من الغناء. ولهذا اعتقد كثير من الفلسطينيين أن فيروز فلسطينية، ونسجوا حولها سيراً مختلفة.. وكان ذلك يعكس عشق الفلسطينيين لها وتعلقهم بها.»
وتنتقل فيروز في أغنية «القدس العتيقة» من الفعل السالب، بقولها «مرّيت بالشوارع»، إلى الفعل الإيجابي «عم صرّخ بالشوارع»، مع تغيّر نبرة صوتها بين الجملتين.
ثمّ تنهي الأغنية فتوصي صوتها أن لا يترك القدس وفلسطين، كأنها تعد بالنضال من خلال الوسيلة التي تحترفها «الغناء».
«يا صوتي ضلّك طاير
زوبِع بهالضّماير
خبّرهن علّلي صاير
بلكي بيوعى الضمير»
كان ذلك في العام 1966.. و هل قلتِ «الضمير» يا ستّ ؟! .
أجراس العودة فلتُقرع !
«سيف فليشهر في الدنيا
ولتصدع ابواق تصدع
الآن الآن وليس غدا
اجراس العودة فلتقرع
اجراس العودة فلتقرع
أنا لا انساكِ فلسطين
ويشد يشد بي البعد
انا في افيائكِ نسرين
انا زهر الشوك انا الورد
سندك ندك الاسوار
نستلهم ذاك الغار
ونعيد الى الدار الدار
نمحوا بالنار النار»
يقول د. فؤاد خطيب من مدينة شفاعمرو داخل أراضي الـ48 : حينما رافقت فيروز مأساة الشعب الفلسطيني منذ بدايتها وشحنتهم بالأمل.. فتحت فيروز عيون طفولتنا الغضة على عام النكسة الكبرى عندما ضاعت القدس ووجدناها في صوتها.
وعرفنا كم كانت المأساة كبيرة وكم وسعت واتسعت ووصلت حد الصلب.. عرفنا كيف قذف شعبنا للمنافي القسرية وما زلنا نسمع للآن أنين اخشاب ذاك الجسر الخشبي تبكي الأرواح الهائمة وتذوب حنينا لشدو البلابل التي تركناها وحيدة على تينة الدار.
وتابع قائلاً : لقد غنت فيروز للحب وللحبيب وللقمر ولصنين وللاسكندرية وعمان وبيروت ويافا وبيسان والى فلسطين أرض البرتقال الحزين، غنت للحنين حتى ضاع الحنين وغنت للأبواب حتى صارت الأبواب رمز حضارة ومنبع عشق لا ينضب .
و غنت للعيون فأصبحت عيوننا أسامينا. غنت للصيف والقمر والطيارة على سطوح الجيران. من منا لم يملك في صباه واحدة طاردت الأحلام.غنت لورق أيلول حتى صار في وجداننا ذهبا مشغولا... جسدت في مسيرة غنائها الطويلة ما تبقى من الحلم العربي والهم العربي.
ويستمد خطيب الأمل من فيروز فيخلص للقول: «كلي إيمان أن هذه الأمة التي تحتضن مثل هذا الفن الراقي لا بد لها من الخروج من وحل العصور والتحرر من براثن الجهل وبعث صرح حضارة عربية أصيلة من جديد. فيروز ستبقى معنا في رحلة إنسانية جميلة الى النجوم. وموعدي معها صباح كل يومٍ على شرفة الدار ..فهي والبلبل وفنجان القهوة وزهور الياسمين حبٌ كبير وعمرٌ مديد.»
فيروز حين يمر صوتها في شوارع القدس العتيقة!
12:00 17-11-2016
آخر تعديل :
الخميس