لا أنوي الخوض في عمق التاريخ المأساوي الطويل الذي مر به سكان اميركا الاصليون ومازالوا يُدعوْن (الهنود) منذ غزا الاوروبيون البيض بلادهم عام 1492، لكني ساكتفي بحقبة اجتياح هؤلاء للغرب الاميركي في القرن التاسع عشر بين عامي 1860 – 1890 فيما دعُي (التدفق من اجل الذهب Gold Rush ) حيث بدأت افواج من ((آلاف المغامرين والمقامرين وتجار الفراء ورعاة البقر والمبشرين واللاهوتيين والبغايا.. وشركة سكة الحديد !) بالتوجه الى تلك الاراضي الشاسعة التي كان يقطنها أهلها من قبائل (الهنود) منذ آلاف السنين، وذلك بهدف الاستيلاء عليها بالقوة أو بالحيلة او باثمان بخسة ومن ثم طرد أصحابها منها وكانت تساندهم في ذلك حكومة الولايات المتحدة وجيشها وقوانينها وقد قامت هوليود بانتاج افلام (الغرب والكاوبوي ) لاخفاء الجريمة وتزوير ما حدث باظهار الهنود كبرابرة متوحشين يعتدون على البيض المتمدنين المسالمين لذلك كان لا بد من قتلهم حد إبادتهم وتجميع من يبقون على قيد الحياة في معسكرات سموها (Reservations) وما هي إلا معازل !
ولعل كتاب دي براون Dee Brown (إدفنوا قلبي في ووندد ني Bury my Heart at Wounded Knee ) كان واحداً من اهم الكتب التي فضحت هذا التزوير، وحين بدأتُ بقراءته لم أكن أعلم أنني سأغرق في حزن مقيم على مدى تسعة عشر فصلاً يروي المؤلف في كل منها مأساة قبيلة من تلك القبائل في الغرب الاميركي ويستقي وقائعها من المحاضر الرسمية لجلسات التحقيق المحفوظة في مكتبة الكونغرس، فعن المجزرة التي حدثت في عام 1890 عند جدول ماء يدعى ووندد ني (... هاجم فيها فرسان الجيش الاميركي جماعة من الهنود بلغ عددهم مئة وعشرين رجلا واثنين وثلاثين طفلاً وامرأة ، ورغم انهم رفعوا العلم الأبيض وسلموا أسلحتهم البدائية فقد أطلق الجنود عليهم النار كأنهم قطعان من بقر الوحش فمات على الفور 153 وهرب الجرحى ليموتوا في البراري حيث البرد القاسي والثلوج...) وجاء في شهادة الزعيم الهندي رد كلاود Red Cloud (لم يكن هناك أمل على الارض وقد بدا لنا أن الرب نسينا.. لقد ساورنا شك فيه حين فقد الرجال عقولهم وهم يصرخون كالمجانين طالبين منه الرحمة التي وعدهم بها ولم يوف بالوعد..). حدثت المجزرة في احتفال اليوم الرابع بعد عيد الميلاد وعندما كان جسد جريح ممزق يُنقل الى داخل الكنيسة المضاءة بالشموع كان مكتوبا على جدارها الكبير (على الارض السلام وفي الناس المسرة)!
كتاب دي براون هذا – كما جاء في مقدمة الناشر–لم يكن الاكثر مبيعاً حين صدر في عام 1971 وبالكاد بلغ عدد ما طبع منه 10 آلاف نسخة لكن يبدو وكأنما لمست رواياته بشدةِ صدِقها وتراً حساسا عند الاميركيين فحدثت المفاجأة وبيع من الكتاب اكثر من خمسة ملايين نسخة وتُرجم لاثنتي عشر لغة ولا ننسى أن اميركا كانت غارقة في عذاب الضمير جراء الحرب الفيتنامية وبعد قليل من فضح مجزرة ماي لي My Lai التي هزت بعنف كل القواعد الاخلاقية لدى الشعب الاميركي والكتاب مليء بمئة قصة رهيبة مثل ماي لي، وقد كتب عنه ناقد اميركي بارز( احزنني واشعرني بالخزي والعار إذ اقتنعت للمرة الاولى والاخيرة اننا نحن الاميركيين لا نعرف حقاً من نحن او من اين اتينا او ما الذي فعلناه ولماذا !؟). كما أن الكتاب حاول الاجابة عن سؤال جارح هو: إذا كان الانجلو ساكسونيون قد غنموا الغرب وكتبوا التاريخ على هواهم فلماذا لا يُروى التاريخ من جانب الذين خسروه ، أي قبائل الاباتشي Apaches والنيز بيرسيهNez Perce’s واليوت Utes والشيبن Cheyennes والسيوكسSioux وغيرهم ؟..
وبعد.. فما زال الاعتداء على الهنود وأراضيهم مستمراً حتى اليوم ومازالت مقاومتهم مستمرة ايضاً، فقبل شهرين كانت هناك وقفة احتجاج في موقع ستاندنغ روك Standing Rock ضمّت اكثر من أربعة آلاف من المعارضين لمد خط انابيب بترول شركة Dakota Access لأنه يمكن ان يلوث مصادر المياه ويخترق ارضاً مقدسة عند اصحابها الهنود حيث تحتوي على مقابر اجدادهم الذين قضوا في نفس الموقع في مجزرة وايت ستون التي اقترفها الجيش الاميركي في 3 أيلول من عام 1863 وقتل فيها اكثر من 300 من قبيلة السيوكس، وقد قادت وقفة الاحتجاج مؤرخة القبائل الهندية لادونا بريف بول Ladonna Brave Bull Allard التي ذكرت لوسائل الاعلام كيف حكت لها جدتها ذات يوم تفاصيل ما حدث في تلك المجزرة الرهيبة التي عاشتها وهي طفلة في التاسعة، ومن الجدير بالذكر ان الصحفية الباسلة إيمي جودمان مديرة محطة DN ذهبت الى ستاندنغ روك وواجهت القمع والاعتقال كي تنقل للعالم مباشرةً اعتداء السلطات والشركة على المحتجين السلميين.
مواضيع ذات صلة