المميز، والمختلف، في ديوان الشاعر الشعبي سالم القنصل، الذي أعده للنشر المهندس خليل قنصل، أنه بالإضافة الى الدرر الثمينة من القصائد بين دفتي هذا الكتاب، يحتوي أيضا على دراسة مهمة حول الشعر البدوي، ومعلومات قيّمة عن المرحلة الزمنية التي عاش فيها الشاعر، ولهذا فيمكن اعتبار هذا الديوان، عدة كتب في كتاب واحد، وسنختار من تلك العناوين ما يفيد المهتم والقارئ، وهنا نقرأ في مقدمة الكتاب حول انتشار الشعر البدوي في المنطقة، ما يفيد بأنه «كما كان في العصر الجاهلي أسواق كسوق عكاظ، فإن للبادية الأردنية أسواقا شبيهة، تختار فيها عيون الشعر البدوي، ويذيع صيت شعرائها: مثل سوق نوري بن شعلان أمير الرولة، وسوق سلطان العلي شيخ العدوان، وسوق عودة أبو تايه شيخ الحويطات.. ألخ».
المعلقات النبطية الأردنية
وكما كان لعرب الجاهلية أيام حروب مشهورة، لها شعراؤها وشعرها الحربي الحماسي، كذلك نجد عند البادية الأردنية أيام حروب مشهورة، مثل يوم معفر، ويوم طلال من بني صخر، ويوم وضحاء، ويوم عبّاد، ويوم الشاشان.. الخ، ولدينا الشاعر الشراري أبو الكباير، الذي أبدع في وصف الحروب والوقائع الشهيرة، ويقول عنه الأرشمندريت بولس نعمان، في كتابه: خمسة أعوام في شرقي الأردن: (ولو نقل شعره إلى لغة أجنبة، لعدّ من أكبر الشعراء، وأوسعهم تصورا، وأبدعهم تخيلا). كان هذا الشاعر يرافق الحروب، ويصعد إلى تلة قريبة، يشاهد مجريات المعركة، ثم يقوم بوصفها وصفا رائعا ملحميا.
وكما كان للأدب الجاهلي معلقاته العشر (أو السبع)، التي كتبت بماء الذهب، فإنه يمكننا أيضا اختيار بعض عيون الشعر البدوي، التي يمكن اعتبارها بمصاف المعلقات، ونسميها المعلقات النبطية الأردنية. ولو كان لي الخيار، لجعلت القصائد ذات المطالع التالية، معلقات أردنية:
-يا خوي عندي لك وصاة مصيبة/ ترى وصاتي تلمس القلب وتصيب.
-يا طروش ياللي ناحرين المراجيب/ تريضوا لي واقصروا من خطاكم.
-كثر التماني والبكا خبّث الجاش/ يا قلب ياللي كنّك الغصن مشدود.
-البارحة العين كن طبّه سهر/ ما اهتنت بالنوم ولا قبلت غطاه.
-يا خوي ما حنا فحمة ما بها سنى/ ولا انت شمسا تلهب الدّو بضياه.
-والشمس غابت يا بن شعلان/ واريد أدوّر معازيبي.
-يا كليب شبّ النار يا كليب شبّه/ عليك شبّه والحطب لك يجابي.
-البارحة يا عقاب يوم القمر غاب/ يوم الثريا كوكبت للمغيبي.
-يا ذيب ياللي انت فوق الرجم عوّيت/ ثلاث نوبات قويات واصلاب.
-إيدي بيدك تنغني واسمع مني/ صدّق ما هو متوني حكم الطغيان.
ويشير المهندس خليل قنصل، في مقدمته، الى ما أورده العلامة روكس العزيزي حول جوانب من خصائص وميزات الشعر البدوي، نورد هنا تفصيلاته حول أوزان الشعر البدوي، وتسمى بـ(الجرّات)، وهي جرّة الهدّ، والجرّة الزوبعية، وجرّة نمر بن عدوان، وجرّة بني هلال، وجرة التوجد، وجرّة السامر، والجرّة الشروقية، والجرّة الهجينية، وجرّة المعيد، وجرّة الترويد، والجرّة المدجنة، والجرّة الجديدة، والجرّة الدهمية، وجرّة محيّر الهد.
«سنة السرحاني»
وعن الشاعر سالم القنصل وشخصيته، تشير مقدمة الكتاب، إلى أن الشاعر في ديوانه المخطوطة، لا يأتي بذكر عن حياته الشخصية، إلا إذا أراد أن يقول بأنه شاهد عيان لحادثة ما، مشهورة في مسيرة عشيرته، أو حين يتحدث عن مناسبات أشعاره، والتي هي بمعظمها ردود أفعال على أقوال خصوم عشيرته، شعرا أو قولا في معرض الذم، فهو لا يذكر شيئا عن سنة ميلاده أو حياته في الطفولة أو المدرسة، سوى حادثة تسميته بلقب قنصل، حين كان طفلا في المدرسة، أطلقه عليه الكاهن، بسبب شعره أشقر وأن عينيه زرقاوان، وهما صفتان تلازمان في مخيلة الناس أغلب السفراء والقناصل الأوروبيين. لا يأتي بذكر أي شيء عن حياته أبدا، حتى إنه لا يذكر قصته مع السرحاني، الذي قتله في سنة 1886، وسمي ذلك العام بسنة السرحاني. يقول العزيزي في المَعْلَمة، بأن الشاعر سالم «كان قبل حادثة السرحاني حاد الطبع، تسبق يده كلمته، ويصاحب غضبه اللجوء إلى السلاح، لكن حدث حادث غير طباعه تماما، فبينما كان يحمل الطعام للحصادين، اعترضه بدوي، وأمره أن يتخلى عما يحمل، وعن راحلته وبندقيته، فقال له ما حرفه: (أسوق عليك الله إكفيني شرّك، لا تحملني دمك)، فما كان منالبدوي إلا أن قال: (إخس يا الفلاح، إنت من اللي يهددون؟ إرم البارودة والطعام وانحاش)، أي ابتعد. فقبل أن تجف الكلمة على شفتيّ متحديه، كانت الرصاصة قد أودت بحياة الرجل. فنُهبت المزروعات، ودُفعت دية القتيل. ومن ذلك اليوم تَحَوّل (سالم) إلى العبادة، لكنه لم يفقد شيئا من شجاعته، غير أن كل نزقه، تحول حلما، وقد تفجرت شاعريته وأخذ ينظم الشعر على الأسلوب المتعارف عليه في البادية –مشد القصيد- وهو يشبه عمود الشعر المؤثم.. ولبراعته في هذا الفن من الشعر، كان الشعراء المبتدئون، يأتون اليه ليشد لهم القصيدة، ويُقوّم شعرهم..».
الثلجة الكبرى
نورد بعض القصائد للشاعر سالم القنصل، وهي مرتبطة بأحداث وقصص، وكأنها تنقل كثيرا من الواقع الاجتماعي والسياسي في تلك الفترة، وترصد بدقة معاناة الأهل في ذاك الزمان. ها هو يكتب حول الثلجة الكبرى (9 شباط 1920م) قصيدة، يقدمها بالتالي:
«وفي ثاني عام ظهر الفأر وبكثرة (سنة الفأر كانت في «أيار» 1919م)، وجاءت ثلجة كبيرة، وكان من نتائجها أن هلك الفأر، وكان طرش بني صخر (أباعرهم) في طريقها الى الغور، فهلك قسم كبير منها (حوالي ألف بعير)، وقد كان الشاعر عيسى الحمارنة مغتربا في فلسطين حين ذاك، فأرسل لي رسالة يسأل فيها عن أخبار الثلجة، والأحوال جراءها، فأرسلت له هذه الكلمات بالحال قائلا:
يا من يبيض لي حروفا امجيزات/ يامن يفيض يم عيسى سلامي.
اللي مدزي لي رسايل طويلات/ عن الثلج ينشد بفصيح الكلامي.
ويقول عجل بالركاب الهميمات/ لازم ترد العلم لي همامي.
دنيت لي فاطر تقل السمينات/ سوت على بعض الخلايق اردامي.
لا تحوملت تقل الجبال المتينات/ شباط ابو الخبصات سوى العدامي.
جت ثلجةً سوت على البدو ماذات/ تريحوا من طروشها والجهامي.
قالوا الرعايا يم ماعين هجمات/ واحد سلخ سبعين جلداً تمامي.
وعلوم تاتي من ديار بعيدات/ ما ينحصر تاريخها بالقلامي.
ولا انحكى به بالسنين القديمات/ ولا تسولفت بكل جيل وعامي.
هبيه دور الفار راحت خرابات/ جملة بوابير دعتها اردامي».
«الأتراك يصادرون الحبوب»
وتحت عنوان «الأتراك يصادرون الحبوب»، كتب قصيدة، صوّر فيها الحال عندما أخذت الأتراك حمى القمع والظلم والمصادرة، بحجة دعم المجهود الحربي، وما كانوا يعوضون أحدا، أو يقدمون بدلا عن مصادرة بيادر المزارعين، وثرواتهم البسيطة. أثارت هذه الأحول حفيظة الشاعر سالم القنصل، فنظم قصيدة قال فيها:
«سلام قصد ما ينلام/ عينه سهرت ما تنام.
خذوا جميع القمحات/ بيعة قشرة غصب إلزام.
هذه بيعه في الكرباج/ يالله حط بغير علاج.
لنّك تممت المطلوب/ انضمته عا حساب العام.
أنا فضله ما عندي ايش/ وعرض اتقدم للشاويش.
يوم ان جيت للسرايا/ هيا حط بلا كلام».
«جَلب المياه من عيون موسى»
وعندما قررت الحكومة في عام 1931م، جلب مياه عيون موسى إلى مأدبا، بواسطة المواسير، حتى ترتاح الناس من مشكلة المياه، لأن الناس كانت تجلب الماء على ظهور البهائم، من عين مياه تسمى عين جديد. وقد عملت الحكومة جداول بأسماء الناس، أهل البلد، كي يدفعوا فلوسا للمساهمة بذلك، أمام القائم مقام سامح بيك.
يقول الشاعر سالم القنصل في تقديمه للقصيدة التي قيلت بهذه المناسبة: فلما حضرت كي أدفع ما عليّ من مساهمة قال له الجالسون، إن هذا الرجل شاعر قدير، فاسأله إذا قال شيئا بهذه المناسبة، فلما سألني قلت بأني ما قلت سابقا، ولكن الآن أقول. وبدون تحضير، قلت هذه الكلمات:
الحمد لله الذي زال الحرج/ وظف العقل لأعمال الصلاح.
سعادة سامح بيك مفتاح الفرج/ هو ريس اللجنة بمشروع الفلاح.
رجع القرية على مجد عرج/ على التواريخ القديمات الملاح.
على الريس والمجلس سنودات وحجج/ من اصحاب المال ببيان النجاح.
أكم مموّل من الدنيا خرج/ لا عمل خير ولا هو استراح.
أكم رجلاً على الجنة درج/ من سخاوة بالزهيدات الشحاح.
انهضوا يا ناس من حال الهمج/ ابشروا بالصحة جسماً والارواح.
ان كان ماء العد على القرية انبلج/ هي نشاف الريق قوطر ثم راح.
ودخلوا في دور فرحاً مع غنج/ عن مية المكروب تشرب من قراح.
ان جا المهندس والموتور اذا لعج/ وسابت الماء بالمواسير الصحاح.
العذارى روّحت مع الفجج/ اهجروا (الجديد) يا عيون الملاح.
يكمل الشاعر سالم بعد نهاية القصيدة، أنه قد «سُرّ القائم مقام كثيرا، ونهض عن الكرسي، وصفق بيديه، وقال: لماذا نأخذ منه؟!».
ديوان الشاعر سالم القنصل (2)
12:00 25-10-2016
آخر تعديل :
الثلاثاء