أبواب

د. داوود حنانيا - عاشق الثلاثة: الجيش والقدس وجراحة القلب 3/1

وهي تُعرّف بالدكتور داوود حنانيا، اختارت موسوعة ويكيبيديا أن تخصّه بالريادة الجراحية على مستوى الأردن والمنطقة: قالت الموسوعة أن «الفريق الدكتور داوود باشا حنانيا هو أول من أجرى عملية قلب مفتوح في الأردن عام 1970، وبعد عامين أجرى أول عملية زراعة كلى في الأردن والعالم العربي، ثم أجرى أول عملية زراعة قلب في الأردن والعالم العربي أيضا عام «1985.

الموسوعة التي وثقّت للدكتور حنانيا في نشأته ودراسته وشهاداته الأكاديمية والشرفية العلمية والمجالس والجمعيات العلمية التي أسسها أو شارك بها، لم تتطرق إلى فيض السجايا الإنسانية التي يتمتع بها الرجل، وفي مقدمتها الدأب المهني المتصوف في عشق الجراحة.

فهو لم يقاعد نفسه حتى بلغ 82 عاما، وقد ورث عن والده، انسطاس عيسى حنانيا، اشتعال الذاكرة التي تحتفي بالتفاصيل الرضيّة، وهو ما نتعقبه اليوم مع الباشا الذي جمع عشقا مثلثا يتوزع بين الجيش والقدس وجراحة القلب، وله في كلّ منها ذكريات كان يمكن أن تجعل حياته سيرة استثنائية في الأسفار المنشورة، لولا أنه لشدة تواضعه لم يشأ أن يكتب عن نفسه.

في مناقبيات المهنة المقدسّة، يمتلك د. حنانيا طيفا ثريا من القناعات التي تستحق التسجيل بعضها سياسي أيضا:

فهو يؤمن أن الطبيب ليس رجل أعمال.

غير راض عن الطب في القطاع الخاص، أما القطاع العام «فأعانه الله» حسب قوله.

برأيه أن المدينة الطبية كانت أعظم مستشفى في الشرق الأوسط.

أمران سياسيان يرتبطان في ذهنه بمنطق القداسة: وحدة الضفتين، والدستور الذي شارك والده في صياغته، والذي يراه « أبو زيد» مقدسا لا يجوز المساس به إلا في حالة الخطر على المملكة.

بداية معرفة د. حنانيا بالمغفور له بإذن الله الملك الحسين، كانت عام 1952 أثناء الدراسة العسكرية للحسين. بعض من شاركوا في إثراء تلك المعرفة، فوزي الملقي والد رئيس الوزراء د. هاني الملقي، عندما كان سفيرا في لندن. هي قصة لعلها تروى للمرة الأولى.

القدس أعتبرها أجمل مدينة في العالم وتاريخها أعظم تاريخ

كل هذا النشاط والذاكرة والإحساس بالمسؤولية لدى الدكتور داوود حنانيا هل هو جينات موروثة أو تربية ذاتية متراكمة محروسة بالعناية الصحية للقلب والعقل ؟ لنبدأ من النشأة والطفولة؟

في طفولتي وتعليمي الابتدائي والثانوي لم أفكر أبداً بمهنة الطب، هذا آخر ما كنت أفكر به... لوالدي فضل كبير عليّ وعلى شقيقاتي، بما قدمه لنا حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من علم ومعرفة.

والدي من مواليد القدس عام 1900، وتوفي عام 1995 عن عمر 95 سنة، وكان بكامل قواه العقلية لآخر لحظة من حياته رحمه الله. وحسب ما سمعته منه فإنهم عندما أصبحوا يأخذون الشباب للجيش التركي، ذهبت العائلة كلها إلى بيروت، حتى يتفادوا دخول الجيش. ودخل والدي الجامعة الأمريكية وكان اسمها في ذلك الوقت (بروتستنت سكول). وعندما دخل الإنجليز لفلسطين، عاد أهل والدي لبيتنا، في البلدة القديمة في القدس، وما زال البيت موجودا داخل أسوار القدس.

أقترن والدي بوالدتي وهي من عائلة دمشقية، من بيت نشواتي، وسكنوا في القدس الجديدة، «القدس الغربية». كان ذلك في الثلاثينيات، أيامها كان من لديه مقدرة يخرج من القدس القديمة ويسكن في القدس الغربية، التي سقطت كليا عام 1948 وخسرنا بيتنا، الذي ولدت فيه.

بقيت في القدس حتى عمر 13 سنة، وفي عام 1948 وكما حدث مع كثير من العائلات ومعظم العائلات في القدس الغربية، هجرنا بيوتنا، لأسباب عديدة أهمها أننا لم نجد حماية من أحد. حصلت وقتها مجزرة دير ياسين، فخاف والدي على شقيقاتي، فذهبنا إلى أريحا ظنا منا أنها ستكون مجرد 3 أيام ونعود لمنزلنا، ولم يتيسر ذلك فذهبنا إلى دمشق عند أهل والدتي، لمدة سنة ونصف وبعد ذلك عدنا إلى القدس القديمة في نهاية عام 1949 بعد الهدنة الثانية، وسكنا في المنزل الذي ولد فيه والدي.

في القدس دخلت كلية الفرير وأكملت الثالث والرابع الثانوي، ثم جئت للأردن، ودخلت الجيش العربي الأردني عام 1951 فرغبت في دراسة الهندسة في أمريكا وأنا لم أكن أعرف أين تقع أمريكا فسعى والدي لإرسالي حيث رغبتي، فقام بعمل اتصالاته وكان يريد أن يقترض المال ليرسلني، ولكن الظروف سمحت حيث سمعنا من أصدقاء من شرق الأردن أن قيادة الجيش العربي تريد أن ترسل دورات لبريطانيا لدراسة الطب، فنصحوني بأن أدرس الطب وفي البداية رفضت، لكن بعد أن فكرت في الموضوع ورأيت انه إذا لم أحصل على هذه الفرصة فوالدي وقتها سيضطر لأن يقترض من الناس لإرسالي لمتابعة دراستي، فقررت الدخول في الجيش، وبنفس اليوم قبلت من قبل القيادة، ولم يكن السبب أن والدي كان متنفذا، كوزير، لكن بسبب أنني حصلت على درجة امتياز (5 من 5) فتم قبولي فوراً.

دخلت الجيش كجندي ثاني صحة، وبعدها وضعونا في معسكر العبدلي لنتدرب وبعد حوالي شهر أو أكثر قليلا تم ترفيعي مع خمسة من زملائي إلى رتبة مرشح، أتذكر منهم الدكتور محمد النجار، إسماعيل زايد وهوموجود حاليا في أمريكا، وسمير جميعان، والدكتور إيميل فريّح وتم إرسالنا في دورة طب لجامعة لندن، ومستشفياتها وقبلنا من مجلس العمداء، وانتخبت لأرسل إلى مستشفى سانت ميري، وهو مستشفى عريق حيث تم اكتشاف البنسلين به عام 1924 وما يزال قائما وهو من المستشفيات المهمة في لندن، كما وكلية الطب التابعة له كلية عظيمة جداً.

تخرجت كطبيب عام 1957 وكان عمري 24 سنة. وعندما طلبت لعمل سنة إمتياز في لندن، لم توافق القيادة والتحقت بالخدمات الطبية وعينت في المستشفى الرئيسي العسكري في ماركا.

أول وظيفة تقلدها والدي قاضي صلح في يافا

بالنسبة لوالدي بعد أن عاد للقدس دخل في المعهد البريطاني للحقوق، الذي أقاموه في القدس وتخرج منه كمحام، وأصبح يملك رخصة مزاولة مهنة المحاماة في القانون المدني والكنائسي، وكانت أول وظيفة تقلدها قاضي صلح في يافا. وبعد مدة ترك وأذكر بأنه ترشح عضوا لبلدية القدس ونجح في الانتخابات الوحيدة التي حصلت أيام الانتداب لبلدية القدس، ونجح معه يعقوب فراج، وكان مجلس البلدية يرأسه حسين فخري الخالدي، يضم أربعة مسلمين، واثنين مسيحيين واثنين من اليهود واثنين إنجليز. كان ذلك في عام 1950.

كانت الضفة الغربية تابعة للأردن، أصبح والدي نائب رئيس بلدية القدس، وبعدها استدعي من قبل الملك عبدالله الأول ليدخل الوزارة، وجاء لهذا الغرض رئيس الوزراء سعيد المفتي، ومعه راغب النشاشيبي، وطلبا من «أبو داوود» أن يدخل الحكومة، فجاء إلى عمان مع العائلة في الثلث الأخير من عام 1950 واستقر فيها، وتقلد فيما بعد الوزارة تسع مرات ومع التعديل 15 مرة، حيث كان في كل الوزارات، مع توفيق أبو الهدى و فوزي الملقي ومع سمير الرفاعي و سعيد المفتي وهزاع المجالي. من الحقائب التي حملها لعدة مرات حقيبة التجارة والمالية والخارجية والإنشاء والتعمير والبرق والبريد، بعدها أصبح سفيراً في لندن لمدة ست سنوات، ثم طلب من الملك الحسين أن يعفيه، فأعاده ودخل عضوا في مجلس الأعيان سبع مرات.

حزب النشاشيبية

من الناحية السياسية كان الوالد مسيّسا منذ الثلاثينيات والأربعينيات وبداية الخمسينيات تحت الانتداب البريطاني، وكان يظهر وطنيته، يصور الوطني الفلسطيني والأحزاب الفلسطينية، وكان منتميا لحزب الدفاع، مع النشاشيبية، وفي عام 1938 شعر بالخطر على حياته فهربنا إلى (عاليه) في لبنان.

أفهم أن الجينات الموروثة بالنسبة لعائلتك كانت محروسة بالعناية الصحية ?

حسب اعتقادي نعم.. والسبب الرئيسي لمحافظة والدي على صحته حتى سن متقدم بتجاوزة الـ 90 من عمره، كونه لم يسمح بأن يزيد وزنه، فمنذ كان في الثلاثين من عمره وهو محافظ على وزنه، لذلك بقيت حيويته مستمرة. والسبب الآخر أنه كان نشيطا جدا، وللتغذية باختياره الأطعمة كنوع دور رئيسي بالمحافظة على صحته.

كان مدخنا؟

نعم.. كان مدخنا من الطراز الأول، ففي اليوم الواحد يدخن سجائر وغليون وأحيانا سيجار وأرجيلة، حتى عندما دخل المستشفى طلب السجائر، ولكن السبب الآخر الذي ذكرته سابقا أنه كان محافظاً على وزنه ونشاطه، ويعتبر الأكل كمالية ونوعية، يعرف ماذا يتناول من أطعمة.

هل خطر لك أن تدون سيرة حياتك.. حتى الوالد لم يفكر بذلك؟

كثير من المؤلفين يراجعوني ويصرون عليَّ كتابة مذكراتي، لكنني لا أرغب، حيث أرى في ذلك صعوبة عليّ. وهذا ما كانوا يقولونه لوالدي، لكنه لم يكن يرغب ايضا بتسجيلها، رغم الحاح العديد من المعارف والاصدقاء، لكنه تجنب ذلك ولا أدري السبب.

بعد ال 82 عاماً هل ذاكرتك ما زالت تسعفك؟

ما زالت ذاكرتي نشطة بحمد الله رغم انني في الـ 82 من عمري .. أشعر ان كل الأشياء محفورة في ذاكرتي لم تمحها السنوات، منذ سنّ الثلاث سنوات في فلسطين، وهذه نعمة من الله، حتى أنني تزوجت من زوجتي وهي عراقية الجنسية، عندما أخذتها إلى الضفة الغربية كنت أخبرها بأمور وتسألني واجيبها مستغربة من وعيي المبكر.. أتذكر ان بيتنا كان جميلا، لكن لم نكن من الأثرياء أبداً، ولكن والدي كان محاميا ناجحا نسبياً، وبنى بيتا على قطعة أرض جنوب القدس في الطريق إلى بيت لحم. وأتذكر طفولتي قبل أن أقدر الخطورة السياسية، لكن في البداية كانت طفولة سعيدة وجميلة.

استراحة

تدمع عيناي.. يحصل ذلك في كل زيارة للقدس

لماذا ألزمت نفسك بزيارتين للقدس سنويا؟ وكيف كانت أول زيارة ؟

حبي للقدس لا حدود له، متأصل في دمي، لأننا عشنا فيها حياة جميلة وكريمة، لم تكن حياة فارهة أبداً، وخصوصاً بعد النكبة، ففي القدس القديمة كنا نعتبر من الطبقة الوسطى. ومن جهة أخرى أعتبر القدس أجمل مدينة في العالم وتاريخها أعظم تاريخ.

عندما أنظر للقدس أشعر بنشوة غريبة، وبالوقت الذي أمضيه هناك، يومين أو ثلاثة أو أربعة أشعر بنشاط غامر، لدرجة أن أهلي يسألوني كيف لا تتعب، حيث نذهب للقدس القديمة سيرا على الأقدام. ولا أوافق أي إنسان يقول لي بأن القدس ذهبت بل ما زالت عربية، إسلامية مسيحية، ويهودية إلى حد.

الشيء الذي لا يذكرعن عام 1948 أن مساحات واسعة ذهبت اسمها القدس الجديدة، القدس الغربية، وهذه القدس الغربية عربية، فالعقارات فيها عظيمة وقد سكن فيها اليهود الأثرياء أو اليهود الذين يمثلون الصف الأول في الحكومة، (البقعة الفوقا) أو القطمون و(البقعة التحتا)، وعندما نذهب اليها هذه الأيام لا نستطيع الدخول لأي مكان بل ننظر إلى بيوتنا، ونحن أمامها ولا نستطيع دخولها.. يا لمفارقات القدر.

وبالطبع أدمعت عيناي. يحصل ذلك في كل زيارة.. «إنها القدس».

وأهم ما يميز مراحل حياتك في المقدسة؟

دراستي في كلية النهضة التي هي بجانب البيت، ومنها إلى الكلية التي كان يرأسها مربي كبير اسمه شكري حرامي.. وأنا صغير كنت عضوا في قسم الشباب الصغار نمارس السباحة والرياضة، وفي المدرسة كنت مبرزا جدا ولا أذكر أنني كنت الثاني في الصف، في الابتدائي والثانوي، بل أكون الأول... كنت الإبن الوحيد بين شقيقاتي الأربع، اللواتي درسن في الراهبات في القدس، وعندما جئنا إلى عمان تابعن دراستهن في كلية الراهبات، ثم في الجامعة الأمريكية واثنتان منهن كان تقديرهما امتياز.

تمنيت لك شقيقا؟

نعم.. من كل قلبي، وبشكل عنيف جداً، وكنت أعمل لوالدي مشكلة شبه يومية بأنني أريد شقيقا، ليكون سندا لي، لأن الإنسان ليس دائماً يكون لديه ثقة بنفسه، فكنت في كثيرمن الأوقات أتوق لأن يكون لي شقيق، وأحياناً أتساءل لماذا أنا لوحدي؟، أريد تحقيق النجاح في المدرسة وفي الكشافة وفي الجيش وأنا لوحدي، أردت ذلك مؤمنا أن الشقيق سند.