ما دمنا لا نملك تأجيل الحزن فلماذا نؤجل الفرح ؟ وانطلاقا من هذه القناعة البسيطة ومن ان لحظات من السعادة قد تعدل احيانا العمر كله لم نتردد، زوجتي وانا، في اقتناص الفرصة للقاء الأحفاد القادمين من القارتين الأميركيتين ولهم في نفوسنا القدح المعلى وبعضهم لم نلتقيه منذ سنوات ، وقد تمت بمبادرة من العمة الخالة مستشارتهم التربوية التعليمية كأستاذة جامعة لا عن سعة مادية بل عن محبة غالية في تجمع عائلي في بيتها كان ذروة فرحنا في رحلتنا الى أميركا التي امتدت شهرا كاملا وبدَّلت بعضا من وطأة العمر بمتعة السكينة والطمأنينة التي لا تقدر بثمن.. في هذه السن ! ولقد كان للسباحة مع «الشباب» انتعاش من نوع جديد ،وحين شاركتهم لبضع دقائق في لعبة كرة السلة إذ أن احدهم من ابطالها في جامعته، عاودتني روح المدرسة السعيدية في القاهرة قبل ثمانية وستين عاما عندما مارستُ تلك الرياضة لآخر مرة ! وحين قمنا بالرحلة المدهشة على بعد ساعة بالسيارة لمشاهدة كثبان «الرمال البيضاء» التي تبدو كالثلوج في عز الشتاء لكنها وسط الصحراء ! وهي واحدة من عجائب الطبيعة الجيولوجية التي تشكلت من ترسب الجص في قاع بحر انحسرت مياهه عبر ملايين السنين فخلفت هضابا تحولت الى رمال بيضاء لينة ناعمة متماسكة لا تذروها الرياح ويحلو المشي عليها بأقدام حافية ! وقد تضاعفت بهجتنا ونحن نرى أحد احفادنا الذي يعشق التصوير الفني حد الاحتراف ( قبل توجهه للتخصص به في الدراسات العليا ) وهو يعدو من تلة لأخرى لالتقاط الصور النادرة مبهورا بتلك التي تلوًن الشمس فيها أفق غروبها.
قد يرى البعض في هذا الكلام عن المحبة العائلية محض شأن ذاتي وانا أراه تعبيرا عن حميمية أتمنى لهم ان يسعدوا بها كما يسعد بنعمتها الآخرون ، واراه كلاما يتناغم مع اعترافي بالفضل لوالديً الذي سطرته في اهداء الجزء الثاني من كتابي « بين الطب والصحافة « قائلا « الى أمي وابي اللذيْن اورثاني وإخوتي كنزا من المحبة المقيمة بيننا..وتفيض على الآخرين « ، كما أتمنى ان أوجه مثله في الجزء الثالث الى عمتي التي كانت في القرن التاسع عشر معلمة مدرسة في العهد العثماني وبقيت فيما بعد في القرن العشرين تعلمنا و تحنو علينا الى جانب أمي ،،فتلك وشبيهاتها لم تك قط شؤونا شخصية فردية معزولة بل قيم إنسانية فاضلة ينبغي الاعتزاز بها واكتنازها مع الاستذكار دايما وباحترام كبير دور المرأة التي كانت في اغلبها وعبر العصور بطلتها الحقيقية.
ولعل اخر خواطري في هذه الرحلة كلمات قليلة أفصح بها عن شعوري بالراحة النفسية العميقة كمتقاعد في اجازة وقد تخفف من مسؤولية العمل المهني الطبي التي لا يدرك ثقلها وضغوطها الا الذين كابدوها، وما بالكم بالذين طالت بهم الى حوالي الستين عاما..!
وبعد..اذ يقترب موعد العودة الى الوطن فان حرارة الشوق آليه تبدأ بالارتفاع، وما احلى الرجوع اليه..
مواضيع ذات صلة