كتاب

خواطر مسافر..عن لاس كروسس !

لا أظن الذين يعرفون إسم لاس كروسس في الاردن الا قلة قليلة فهي مدينة صغيرة في أقصى جنوب ولاية نيومكسيكو في الولايات المتحدة محاذية للبلد «الام» ايالم كسيك نفسها..كانت قرية على نهر فرعي ثم نمت بفضل الجامعة التي أنشئت فيها (٢٠الف طالب) وأصبح عدد سكانها ١٠٠ ألفٍ لتشكل ثاني اكبر مدن الولاية الثلاث بعد ألبوكير كي (٥٥٠ألفا) ومع ان نيومكسيكو احدى اصغر الولايات فعدد سكانها لا يتجاوز المليونين وربع الا ان مساحتها تبلغ ٢٢٥ الف ميل مربعا ياكثر من ثلاثة أضعاف الاردن معظمها صحراء قاحلة لكن النهر الكبير القادم من ولاية كولوراد ويغذي بالمياه واديها الأخضر الواسع الذي يحتضن المزارع والقرى بين سلسلتي جبال تمتدان من الشمال الى الجنوب.

هذه المعلومات القصيرة السريعة ليست لأغراض سياحية بالطبع بل تمهيد لا بد منه لسرد ما يأتي: في سهرة عائلية في لاس كروسس شاهدنا فيلما وثائقيا عن حياة الرسامة الأميركية جورجيا أوكيف Georgia O›Keeffe (١٨٨٧-١٩٧٦) لأنها جزء من برنامج رحلتنا الى الشمال حيث العاصمة سانتافيه المعروفة بمدينة الثقافة والفنون وعدد سكانها لا يتجاوز ٨٥ ألفا، وفي صباح اليوم التالي سافرنا بالسيارة فوصلنا بعد خمس ساعات الى منتجعGhost Ranch الذي كانت الفنانة الكبيرة تحج اليه بضعة شهور من كل سنة لتخلو الى نفسها وفلسفتها في الحياة وتتزود بالطاقة الروحية لمواصلة نضالها من أجل حقوق المرأة خصوصا حقها في جسدها ثم تعيش الساعات الطوال مع ريشتها لتبدع بها أجمل ما خلفت لنا من لوحات خالدة، فهي العاشقة للزهور في ذلك الوادي الخصيب الذي تنتصب في جنباته جبال ملونة بصخورها التي قدت على أشكال طبيعية متنوعة كأن مجموعة عبقرية من المهندسين والمهندسات أفنت حياتها قي نحتها وتشكيلها حتى جاء أحدها على هيئة كاتدرائية هائلة الحجم، وفي ذلك المنتجع الملهم نمنا ليلتنا في البيوت الخشبية المتناثرة وسط احراشه والغزلان تتجول حرة بكامل اناقتها.. وخُيلائها !

حين غادرنا في اليوم التالي الى سانتافيه العاصمة الصغيرة التي تعتبر ثالث اكبر سوق فنية في الولايات المتحدة بعد نيويورك ولوس انجيلوس وتحتوي على اكثر من ٢٥٠ معرضا للفنون التشكيلية المختلفة و٤٠ متحفا من أهمها تلك التي تروي بالصوت والصورة والافلام الوثائقية تاريخ السكان الأصليين الذين أراد الغزاة البيض من الغرب ان يبيدوهم ليحلوا محلهم لكنهم صمدوا ! وفي سانتافيه هذه تغمر النفس اجواء حميمة من عشق التراث واحترامه فمعظم البيوت كما في باقي الولاية مبنية على طريقة الAdobe اي بيوت الطين التي عاش فيها الأولون وهي تشبه تلك التي كان يقيمها فلاحو بلادنا في الماضي من قوالب الطوب (اللبن) المصنوعة يدوياً من طين التراب والقش، اما هنا اليوم فهي مصممة على احدث الطرق الهندسية وبالمواد المطورة العازلة وتكييف الهواء وتصريف مياه الأمطار (المزاريب) ويحتفظ مظهرها بالشكل الخارجي ناعم المنحنيات والزوايا وتكسوه طبقة من الخلطة ذات اللون البني الضارب الى الصفرة او الوردية كلون التراب الرملي في ارض هذه الولاية الصحراوية الشاسعة كانما ليثير في سكان البلاد الأصليين الذين يلقبون زورا بالهنود الحمر وماهم هنود ولا حمر الجلود، روح التحدي ضد محاولات طمس هويتهم وثقافتهم وتراثهم وليذكرهم كيف استولت على بلادهم واشترتها بثمن بخس حكومة الولايات المتحدة عام 1848 اي قبل مائة عام من سلب الغزاة ارض فلسطين اعتمادا على مقولة «ارض بلا شعب لشعب بلا ارض» التي تشبه العهد البابوي الذي أعطى للمستعمرين المستوطنين القادمين من اوروبا الحق في امتلاك الارض التي يكتشفونها في القارة الجديدة فتفقد شعوبها الأصلية الحق في هذه الارض الخالية terra nullius !

لا نغادر سانتافيه الا ببلوغ قمة الاستمتاع بقضاء مساء باهر الروعة في دار الأوبر االتي ليس مثلها في كل البلاد، تبعد ستة اميال عن المدينة وتقع على ربوة مطلة على مساحات واسعة من الحقول والهضاب وهي بلا جدران في جهاتها الثلاث لتصبح مفتوحة على مد البصر يرى الجالسون على مقاعدها قبل العرض وقبيل مغيب الشمس مشاهد الطبيعة تمتزج رويدا رويدا مع بدايات المسرحية او المغناة في انسجام شاعري ساحر الأثر والتأثير، وكانت هذه المرة أوبرا دون جوان لموتزارت..

وبعد.. فهذا جزء من رحلة طويلة أقوم بها مع زوجتي في هذه السن دونما رهق وذات مذاق ثقافي غير بعيد عن الأحداث السياسية وعلى صلة عميقة بما خبرته في اليونيسكو قبل سنوات حين شرفني بلدي بتمثيله في اللجنة الدولية لحرية التعبير عن التنوع الثقافي لدى شعوب العالم، فشكرا لمضيفتنا (ابنتنا) الدكتورة منال الاستاذة في جامعة ولاية نيومكسيكو في لاس كروسس..