كتاب

« خواطر مسافر، عن شيكاغو»

أول ما يتبادر للذهن عند الحديث عن مدينة شيكاغو هو ما ساد عنها حتى أواسط القرن المنصرم من انها مدينة الجريمة التي تعج بعصابات القتل المأجور (المافيا) خاصة عندما جرى منع تجارة الخمور فتحولت سريعا إلى التهريب، لكن لها في أذهان آخرين صورة المدينة الكبيرة الشامخة بناطحات السحاب على ضفاف نهرها وشواطئ بحيرتها الجميلة التي تتجمد مياهها في فصل الشتاء، وهي في أذهان أناس أُخر المدينة التي احتضنت فيها كلية الاقتصاد المشهورة نظرية ميلتون فريدمان لتمكين وتطوير حرية الاقتصاد من خلال فلسفة جديدة سميت Neoliberalism وقد حملها تلامذته الذين أطلق عليهم من قبل منتقديه لقب «صبية شيكاغو» وذلك منذ منتصف القرن الماضي وهي لا تدافع عن اقتصاد السوق فحسب بل تدفع به الى مهاو لم يألفها العالم من قبل حيث الانفلات والجشع إلى درجة القضاء على مكاسب الفقراء المحدودة في العدالة الاجتماعية التي حصلوا عليها في هذا البلد أو ذاك، وإلى حد فرض حكومات دكتاتورية لتطبيق تلك السياسة على العديد من دول العالم بدءاً بإندونيسيا ١٩٦٧ ومرورا بتشيلي ١٩٧٣.

وشيكاغو بالنسبة لي كانت قبل أربعة عقود قلعة من قلاع العلوم الطبية في مجال اختصاصي فتوجهت إليها لحضور دورة تدريب على جراحة الإذن الداخلية لمعالجة بعض أسباب الدوار والطنين وفقدان السمع تحت إشراف البروفيسور شامبو احد معجزات عصرنا في هذا التخصص الدقيق.. أما اليوم فأنا فيها استمتع بالجانب الثقافي الذي قلما يدركه زوارها العابرون إذ أن فيها حركة فنية توصف بالعراقة والرقي حتى يقال إن كلا من نيويورك ولندن تحذوان حذوها، ولقد أتيحت لي فرصة حضور مسرحية بعنوان Between Riverside and Crazy الحائزة على عدة جوائز ولسوف تدهشون لو تعلمون أنها تنتقد بسخرية لذعة قانون المالكين والمستأجرين الذي بدأ تطبيقه في نيويورك منذ ثلاثة وأربعين عاما وطال بظلمه شرائح عديدة من فقراء المستأجرين المنتمي للطبقة العاملة وأغلبهم من السود حتى انه وصل إلى المتقاعدين من جهاز الشرطة، وربما يذكر البعض أنني بدأت الكتابة ضد تعديلات مشابهة عندنا في نفس تلك الفترة الزمنية تقريبا لأنها تفتئت على حقوق المستأجرين في أمنهم السكني، ولم أتوقف..لان الافتئات لم يتوقف حتى الآن !

أما المسرحية الثانية في هذه الأمسيات الفنية فقد كانت بعنوان Grapes of Wrath لمؤلفها جون شتاينبك الذي اشتهر في خمسينات وستينيات القرن الماضي بإنتاجه الأدبي اليساري الجريء، ولعل أبناء جيلي يذكرون فيلم On The Water Front الذي مثل الدور الرئيسي فيه النجم (الصاعد آنذاك) مارلون براندو وُترجم عنوانه في مصر إلى «ذئاب الميناء» وأحدث صدى واسعا في الأوساط الثقافية والسياسية وتحدثت عنه مطولا ابرز صحف القاهرة «المصري» و «روز اليوسف» وكان من أشد المتحمسين له الأديب والمسرحي الكبير عبد الرحمن الخميسي.

وبعد.. أما الثالثة فمناسبة ثقافية أقيمت في احد مسارح شيكاغو المتميزة Silk Road Rising وعرض فيها فيلم The Four Hijabs )الحُجب الربعة) بالرسوم المتحركة وهو مأخوذ عن الكتاب الأكاديمي Pedagogy of Deveiling للدكتورة منال حمزة ، وسأدع الحديث عن هذه المناسبة العزيزة على قلبي لقال آخر وربما على لسان كاتب آخر لأنها.. «تخجل تواضعي « بقدر ما لاقت من اهتمام وترحيب !.