محمد قديسات -اربد
تجمع فصول الحصاد في مزيج فريد حيث تتلاقح سنابل القمح مع اغصان الزيتون ويشكلان معا ثنائية شذى رائحتها تعطر الانوف وتتخطى حدود الجغرافيا والزمن فبعد ان كانت حكرا على منطقة بعينها طافت شهرتها ارجاء الوطن واصبحت مرغوبة من الشقيق والصديق ولم تقتصر حكايتها على الجدات والامهات بل توارثها الاحفاد وان كان لكل جيل طريقته الا انها بقيت تحتفظ بقوامها وشكلها الجذاب ومكوناتها «اننا نتحدث عن اكلة شعبية دارجة توطنت شمال الممكلة الا ان صيتها وسمعتها اوصلتها للمدينة للجنوب والغرب والشرق الا وهي المكمورة ذائعة الصيت.
ورغم حاجتها للاتقان والخبرة من جيل عايشها في مهدها وسكب عليها من خيرات ارضه وانتاجه ولفها بدفئه كما هي حاجة المكمورة الى سكب الزيت بسخاء وخفة الحركة والرشاقة في التعامل مع عجينتها والدفء البطيء في انضاجها فهي تجاوزت الموروث واصبحت مطلبا حتى في المطابخ الحديثة بعد ان بقيت لزمن حبيسة اهل الصنعة.
ووسم المكمورة بانها اكلة شعبية شمالية ارتبط ارتباطا وثيقا بالميزات النسبية لمناطق شمال المملكة حيث انتاج القمح الذي يشكل مع انتاج زيت الزيتون الذي تشتهر به ايضا المكونان الرئيسان في صناعة هذه الاكلة الشعبية فهي تحتاج الى طحين القمح وكميات من زيت الزيتون لا تشكل عبئا على مخزون العائلة الاستراتيجي من هاتين المادتين ولذلك ظلت حتى زمن ليس ببعيد اكلة موسمية مع دخول الاجواء الباردة التي عادة ما تلي موسم قطاف الزيتون وعصره فغدت الاكلة الشتوية الاكثر شيوعا في مناطق الشمال بعامة وان تفرد بعضها بخصوصية معينة في الوية بني كنانة والرمثا وبني عبيد والمزار الشمالي والكورة وقرى غرب اربد.
وتكشف الحاجة الثمانينية ام فاضل بعض اسرار عمل المكمورة المتصلة بعجينتها ... وترى ان عجينتها التي يغلب عليها الطحين البلدي الاحمر الذي يسمى مجازا بالاسمر لا ينفع وحده في صناعة عجينتها لانه غير متماسك ويتهلع بمعنى ليس له «حيل» حسب المصطلح الدارج والطحين الابيض وحده لا يفي بالغرض لانه يشتد زيادة عن المطلوب ولذلك فالعجينة الامثل تكون مزيجا بين الطحين الاسمر والابيض لضمان السيطرة على العجينة وتناسقها.
وتقارن ام فاضل بين طقوس عمل المكمورة ايام ما وصفته بايام العز والخير والبساطة وبين انتقالها من احضان فرن الطابون الى الافران الحديثة التي تؤكد انها افقدتها شيئا من بريقها وخصوصيتها وحتى من طعمها المختمر في الذاكرة وتروي ان المكمورة كانت ايم زمان تصنع في الطنجرة»الطاسة» وتوضع في فرن الطابون لمدة يوم بعد ان يحكم غطاؤها ويلف دائره بعجينة تمنع نفاذ الهواء الى الطنجرة لتنضج على نار هادئة وتنصهر مكوناتها في مزيج شهي بينما اليوم مغ غياب فرن الطابون فان التقاليد تغيرت لتنتقل المكمورة من الطنجرة الى «الصينية» والى فرن الغاز فاختصرت الحداثة وقتا كبيرا من الوقت الذي كانت تحتاجه المكمورة ايام زمان وتقلصت طبقاتها تبعا لذلك فاصبحت في المطيخ الحديث لا تتعدى بضع طبقات بينما كانت تصل الى اكثر من عشرين طبقة سالفا.
وعن مكونانتها الاساسية فانها لا تختلف بين الزمنين والجيلين بحسب الحاجة ام فاضل حيث يطهى اللحم مع البصل طهيا غير مكتمل ثم تفرد طبقة العجين ويوضع عليها المزيج وتغطى بطبقة اخرى وهكذا حسب عمق الطنجرة او الصينية وتوضع في الفرن وتحتاج في العادة في المطابخ الحديثة لمدة تقترب من ساعتين حتى تنضج نضوجا كاملا مشيرة الى ان الاضافات على الخليط المكون من الدجاج او اللحم مع البصل والزيت تختلف حسب الاذواق لاسيما البهارات والنكهات وتقول ان عمل طاسة مكمورة واحدة كان يستهلك حوالي اثنين كيلو من زيت الزيتون البلدي وهذا سر ارتباطها بموسم القطاف.
واذا كانت المكمورة تعد من الاكلات الشعبية لكن اسرارها لم تقتصر على الجدات والامهات فالتقطت البنات والحفيدات بعضا من اسرارها ونقلنها الى مطابخهن الحديثة رغم ما اعترى موروثها من تغيرات بحكم العصرنة والحداثة الا انها بقيت من الاطباق المرغوبة شعبيا.
وفي هذا السياق تؤكد شهينار الطعاني صاحبة مطبخ حديث في عمان ان المكمورة لم تعد اكلة شعبية شمالية او اردنية بل ان شهرتها جعلتها حاضرة في بعض الولائم والمناسبات الى جانب الاكلات الشعبية الاخرى التي يشتهر بها الاردن وتقول ان المكمورة اصبحت مطلوبة من الجالية العربية في الاردن وتدلل على ذلك ان الطلب عليها من بعض الهيئات الدبلوماسية العربية والاسلامية اصبح واضحا.
وتضيف الطعاني» ان الطلب يتزايد على المكمورة عند الرغبة في تغيير الماكولات التي تعتمد على الارز كمكون رئيس فيها ونصحت كما نصحت الحاجة ام فاضل ان من يتناول المكمورة يجب ان يحرص على الابتعاد عن التعرض للبرد نظرها لتشبعها بالزيت والبصل.
