نقرأ في كتاب الله العزيز قوله تعالى «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا، انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا»، مُحب الله سبحانه هو «القانون الاخلاقي» الذي يدفع الناس الى حب الخير والعمل الصالح، وينأى بهم عن المنكرات، لا طلب المحمدة عند الناس او نشدان منفعة لديهم، والانسان عند الفيلسوف الالماني «كانت» – الذي يمكن اعتباره معتزليا اوروبيا بمعنى او بآخر – يطيع القانون الاخلاقي ويُجّلُهُ دون طلب سعادة او أي شيء سوى الايمان بالواجب والقيام به بمقتضى حكم العقل، ونحن، على كثرة ما نسمع من حديث «النزاهة» فاننا لا نجد من يستوقفه هذا «القانون الاخلاقي» الذاتي الذي يصدر عنه «المؤمن» او «العاقل» في مجمل اعماله، اذ الحديث ينصب كله او جُلّه على ما يؤكد ضعف الارادة الاخلاقية في الناس، وعلى ان العمل في وظائف الدولة مظنه التنكب لما يقتضيه العقل والايمان، وان عوامل الترغيب والترهيب هي وحدها الكفيلة بزحزحة الناس عن مطالب اهوائهم او يدفعهم الى الاستقامة، او الى ان يكونوا «نزيهين» فيما يأتون ويدعمون من شؤونهم.
من اجل ذلك فان مفهوم «النزاهة» يكاد يستقر، في مجمل النقاشات التي تدور حوله، على معنى «تقنيات الردع» او ألوان التحذير من الفساد لا على ما نراه في اصل اللغة وآفاق القيمة من كون النزاهة ارتفاعا «ذاتياً» عن موجبات اللوم او عن النواقص القادحة بالمروءة، ولعل اقرب مثال على ذلك ما نجده في مداخل الاسواق الكبيرة (المولات) من تحذير بان ثمة آلات تصوير تطّلع على المتسوقين، اذ لا يمكن فهم هذا التحذير إلا من حيث هو افتراض ضمني بغلبة دواعي الفساد على الناس، او بأنهم دون مرتبة ان ينزهوا انفسهم عن الاختلاس اذا هم أمنوا الرقيب، وهذا في الحقيقة مجافٍ لحقيقة ان للانسان قانونه الاخلاقي الذي ينبغي اتعاظه، ولحقيقة ان أي خطاب لا يتوجه الى فطرته الخيرة والى مكامن المروءة فيه سيظل خطابا قاصرا في اقصى درجات استجابته له، وان هذا ليؤكد ان التعليمات، وطرائق المراقبة، وألوان الاحترازات، وكل ما سلك هذه السبيل او ما ترتب عليه من زواجر وعقوبات او حوافز ومكافآت كل ذلك لا يمكن ان يشكل «ميثاقا» او تعاهدا ذا طابع قيمي بين افراد المجتمع على اختلاف مواقعهم. ان الميثاق نظام داخلي يلتزم المواطن به بصفة كونه برهانا على صلاحه امام الله اولاً ثم امام نفسه وامام الآخرين، وهذه مسألة لا تتم بألوان الاحترازات القبلية وألوان العقوبات البعدية سجال.
ولعل مفهوم «التقوى» ومفهوم «المروءة» ومفهوم «الفتوة» هذه المفاهيم الراسخة في بنيتنا الشعورية وكينونتنا الثقافية ان تكون هي قوام أي ميثاق للنزاهة، حيثما كان، وفي اية مرحلة يستشعر الناس فيها بتباعد ما بين واقعهم وبين المثل الاعلى للاجتماع الانساني.
وان مما نحمد الله سبحانه وتعالى عليه ان عندنا ميثاقنا الاخلاقي والاعلى الذي نستخلصه من كتاب الله الكريم ومن سُنّة نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ومن ميراث النبوات السابقة، والذي تمثله العرب والمسلمون في مسيرتهم الحضارية فجعلت تهوي إليهم أفئدة الأُمم والشعوب وتراهم أُنموذجات سامية يتنورونها.
والمسألة بعد تحتاج بعد هذه الاشارة او اللمحة الموجزة الى كثير من التفصيل وعسى ذلك ان يكون..