كنا في مقالة سابقة قد أشرنا الى أن العقل هو قوام الدولة, وحاولنا ما وسعنا الجهد ان نربط ذلك بأحوالنا في العالم العربي, ايماناً منا بأنه اذا غاب العقل فقد حضر (الجنون) بكل أشكاله التي لا نعدم ان يكون بعضها (عقلانياً).
والجنون لغة: «هو الحؤول بين النفس والعقل وهو واقعاً هذا الذي تعيشه أمتنا العربية بعد أن حيل بينها وبين عقلها وبعد أن نجحت السلطة على اختلاف تجلياتها في عزل العلماء والمفكرين عن جماهير الامة, نقصد (عقلها) الذي يجعل لحياتها معنى وقيمة وهدفاً, شأن كل عقل يقود النفس ويلتمس لها السبيل القويمة ويتنكب بها المهالك.
والعقل ليس تجريداً ذهنياً, ولا هو كائن مستقل يقف بمعبده عن الذات الانسانية, بل هو فاعلية ونشاط وهمة واتقاد ووعي مبادر واستنارة دائمة, ونقد وتقويم, وتعلم وتعليم, وكل أولئك مخائل عافية ودلائل حياة وبراهين رشد, اذا هي غابت او فقدت لم يبق الا (الجنون) سيداً للموقف وحاملاً للالوية, ومحركاً للجماهير.
العقل اذاً مناط التميز النوعي الذي يعلن في غمار الناس مقياساً لما ينبغي أن تكون عليه حركتهم في الحياة, وهو جدير بأن يحتفى به أو بمن يمثلونه على نحو ما كانت قبائل العرب تحتفي بألسنتها اقصد شعراءها مع ادراك للفارق بين من يقول:
وما انا الا من غزية ان غوت
غويت وان ترشد غوية ارشد
وبين من دأبه مواجهة الاغاليط وكشف الشبهات, وايضاح المحكمات وتنبيه الاذهان الى مقومات البرهان, اذ الاول أي شاعر القبيلة مسوق بعواطفها، محمول على اهوائها، بينما يلاقي الثاني العنت ويتجرع المرارات ويكون لسان حاله ما قاله احدهم:
امرتهم امري بمنعرج اللِوى
فلم يستبنوا الرشد الا ضحى الغد.
واذا كان بعضهم يرى ان للجنون دوره في المجتمعات، وانه لا بأس بقدر من الجنون الذي يُصاحب سورة الحياة، ويكون احيانا دليلا عليها فانه ليستوقفنا ما قاله الشاعر العربي القديم في مثل هذا المعنى حين قال:
لو كنت من مازن لم تستبح ابلي
بنو اللقطة من ذهل ابن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشر خُشُنْ
عند الحفيظة إن ذو لوقةٍ لانا
لكن قومي وان كانوا ذوي عددٍ
ليسوا من الشر في شيء وان هانا.
وغاية ما نريده من هذه الابيات ان الجنون المقصود، هنا هو الحمية والغضب وسرعة الرد على الباغين، وفي القرآن الكريم نرى من صفات المؤمنين انهم اذا اصابهم البغي (هم ينتصرون)، وواضح ان في اللغة اتساعا يفي بالغاية في هذا المجال.
اننا هنا انما نلامس رؤوس المسائل واطراف الموضوعات، وحسبنا اننا نلفت الانظار الى مسألة تلتبس التباسا شديدا على كثير ممن يعنون بسيكلوجية الجماهير او بعلم نفس الجماهير الذي يرصد موثباتها ومثبطاتها، ولعلنا ان ننتهي من هذه المقاربة الى ان العقل هو الغائب العزيز في حياتنا السياسية والاجتماعية او الى انه شيء لا كالاشياء اضعناه وصح لنا ان نقول في ذلك قول الشاعر العربي، مع تغيير رأيناه مناسبا:
اضاعوني واي (حجىً) اضاعوا
ليوم كريهةٍ وسِدَادِ ثغري.