تشهد الساحة العربية هذه الأيام جهودا حثيثة لتجاوز الخلافات وتنقية الأجواء قبل انعقاد القمة العربية الدورية نهاية الشهر الجاري في الدوحة، والحقيقة أن إصرار العرب هذه المرة على الوفاق والاتفاق، يعكس إحساساً عميقاً لدى العرب بأن ثمة معادلات جديدة تتشكل في المنطقة تقتضي التفكير بشكل جديد، وأن الملفات موضوع البحث والمساومة بين الأطراف الدولية والإقليمية التي تجري على قدم وساق، هي بالأساس ملفات عربية بامتياز، وتمس عمق المصالح القومية دون مشاركة العرب أنفسهم. ليس الجديد أن ثمة تحديات جدية على العرب مواجهتها، بل إن الجديد بالأمر هو أن خصوم العرب وأعداءهم - على حد سواء - أصبحوا جزءاً من اللعبة الكبرى في المنطقة، ودخلوا مرحلة التسويات الكبرى على حساب المصالح العربية، وبشراكة مع الحليف الأكبر للعرب وهو الولايات المتحدة الأمريكية في عهد اوباما. إن التحدي الأول والدائم، ما زال هو التحدي الإسرائيلي؛ فإسرائيل أخذت تتجه نحو اليمين منذ سنوات، وانقلبت على عملية التسوية التي انطلقت في مدريد مطلع التسعينيات، والآن - وهي بقيادة اليمين المتطرف - فإنها لا تضع عملية التسوية مع الفلسطينيين على أجندتها، على الأقل بالمدى المنظور. أما التحدي الآخر- والذي بدأ يأخذ أبعاداً خطيرة لا يمكن التغاضي عنها - فهو التحدي الإيراني وعنوانه الأول أمن الخليج الذي أصبح الآن عنواناً إيرانياً أمريكياً، فمفتاح أمن الخليج أصبح بيد إيران والولايات المتحدة؛ (الاحتكاكات العسكرية بين الطرفين، والتهديد الإيراني الدائم بإغلاق مضيق هرمز... الخ ). أما عنوانه الثاني فهو سعي إيران لامتلاك السلاح النووي لتصبح ثاني دولة محيطة بالعرب تمتلك مثل هذا السلاح بعد إسرائيل. وهذا يعتبر تحدياً وجودياً للعرب الذين لم يدخل أي منهم النادي النووي بعد، والملف النووي الإيراني قد يحول المنطقة إلى منطقة انتشار للسلاح النووي، مما سيضع العرب في مرتية جد متأخرة من الناحية العسكرية والتقنية. يضاف إلى هذه التحديات (الإيرانية - العربية)، التحدي العراقي، والذي أخذ منحى بالغ الخطورة لحظة إعلان الرئيس الأمريكي تحديد سقف زمني للانسحاب من العراق. فعراق ما بعد الانسحاب، هو فاتحة مرحلة من نوع مختلف، إن كان لجهة استعادة الدولة العراقية لمكانتها الطبيعية بين أشقائها العرب، أو لجهة الحفاظ على وحدة العراق وأمنه واستقراره، وإلا فإن من الممكن أن يتحول العراق (لا سمح الله) إلى ساحة استنزاف (أمنية، سياسية) للعرب. أما من ناحية أخرى، فقد عادت تركيا للعب دور سياسي بغطاء أمريكي. فتركيا التي استعادت دفء العلاقة مع واشنطن بعد زيارة وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلنتون الأخيرة لأنقرة، تطمح لأن تلعب دوراً حيوياً على المحورين العربي - الإسرائيلي، والأمريكي - الإيراني، وهذا بالضرورة سيكون على حساب الدور العربي في المنطقة؛ فدولة بحجم تركيا لديها مصالح حيوية في المنطقة ستسعى إلى إعادة بناء شراكتها مع الأطراف الدولية (أمريكا على وجه الخصوص) على حساب العرب. وأخيراً وليس آخرا، برز التحدي السوداني بعد قرار المحكمة الدولية بتوجية لائحة اتهام بحق الرئيس السوداني وطلب القبض عليه للمثول أمام المحكمة. والحقيقة أن أخطر ما ينطوي عليه هذا القرار بأنه يهدد وحدة السودان الجيوسياسية؛ فالسودان بلد عربي مزقته الحروب الانفصالية، وأنهكه تدخل الدول الكبرى والصغرى في شؤونه الداخلية، مع غياب عربي واضح. والمطلوب من العرب بقمة الدوحة إيجاد مخرج لكي لا يتكرر السيناريو العراقي في السودان الشقيق. إنها حقا تحديات جسام، ولكن ما يبعث على التفاؤل هو نجاح تلك الجهود المبذولة الآن لتجاوز الخلافات، وعلى أكثر من محور، وعلى حد قول المثل (أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً). [email protected]