عاد مساءً… نظر حوله… وقعت عيناه على هذا الشاهد الضخم، معلم تراثي وصّاه عليه أبوه قائلاً: «لا تفرط به، فقيمته لا تُضاهى».
ضحك في سرّه.
تذكّر كم رمى نفسه عليه بعد تعب طويل… بعد صولات وجولات في الحياة… كم احتمل وما زال…
تذكّر كم أسند ظهره عليه بعد كل خيبة…
كم جلس عليه يفرغ حزنه، يسكب ألمه، يودع دموعه في حناياه، كأنه مأمنه الأخير. كم اعتبره علّاقة لملابسه، وحاملاً لحاجياته… حتى إنه وضع عليه يوماً أثاثاً كاملاً بقصد تعديل الغرفة…
«لا بأس… فهو صامد… كصمود صنوبرة سقطت أوراقها وبقي جذعها قائماً».
لاحظ أنه بدأ يهترئ…
«لا يهم … فما الحاجة لصقله؟ هو مجرد قطعة تحملني… وتحمل قسوتي».
في تلك الليلة، ألقى عليه معطفه، ثم أسند ظهره عليه بكل ثقله.
سمع صوت خشبة تئنّ…
صوتاً خافتاً، كأنه تنهيدة عتيقة خرجت من أعماق الخشب…
أغمض عينيه، وهمس في نفسه:
«كم احتملتَ… كم بلعتَ أوجاعي دون شكوى…
أكنتَ تئنّ كل مرة ولم أسمع؟
أم أني كنتُ أسمع وأتجاهل؟
هل كل شيء ثمين يصمت حتى يكسر؟
وهل كل حب عظيم يولَد ليُستهلَك حتى ينضب؟
يا إلهي… كم نحن جاحدون حين نشعر أن الأشياء باقية… فقط لأنها بقيت طويلاً».
غفا…
وفي الصباح، استيقظ على صوت ارتطام غريب…
فتح عينيه مذعوراً…
نظر… فوجده…
الكرسي ممدّد على الأرض، منكسر، مفرّط، متشقق، متناثر.
حدّق فيه طويلاً…
كأن الزمن توقف لحظة…
اقترب ببطء، جلس قربه، مد يده يتحسس الخشب المهترئ…
مرر أنامله على كسرٍ غائر…
تمتم:
أيعقل؟… كنتُ أظنك أقوى من السقوط…
كنت شامخا…
لم يخطر لي أنكَ تحملتَ كل هذا وحدك…
لم يخطر لي أن الصمت لا يعني القوة…
وأن الظل لا يعني الأمان.
"كنتُ أظنك صلباً…
لكني نسيت أن حتى الحديد يصدأ…
أن حتى الجبال تتآكل…
أن حتى القلوب القوية لها نقطة انهيار».
خفض رأسه…
وشعر بحرقة تلسع داخله:
"كنتَ وحدك مَن حملني… كنتُ أضع عليك كل ثقلي… وأمضي…
كنتُ أعود فأجدك هنا… صامتاً… صامداً…
لم أفكر لحظة أن لك روحاً… أن لك احتمالاً…
ظننتُك خُلقت لتحملني… نسيتُ أنك مخلوق له حدٌّ…
نسيتُ… وغفرتَ…
لكن لا شيء يغفر الكسر».
ظل جالساً طويلاً أمام الحطام…
عاجزاً أن يجمعه…
عاجزاً أن يحاول إصلاحه…
عاجزاً حتى عن الاعتذار.
***
مرّت أيام…
ظل مكانه
فراغاً
ظل لا يُستبدل…
حكاية لا تتكرر.
الغرفة كما هي… الشظايا كما هي…
والكرسي؟
لم يعد كما كان.
سأله صديقٌ ذات مساء:
«لمَ لمْ تصلحه؟»
ابتسم ابتسامة حزينة… وأجاب:
«بعض الكسور لا يُرممها المسامير…
بعض الشروخ لا تُجبرها الأيدي…
بعض القطع حين تنكسر… لا تعود تحملنا مجدداً…
لأنها أعطتنا نفسها كاملة… ولم تبقِ شيئاً».
ثم التفت إلى الشظايا… همس كأنه يحادثها:
«لو كنتِ إنساناً… لأدركتِ كم أنا آسف…
لكني أخشى أن الاعتذار لا يجبر ما لم أجبره حين كان بإمكاني…
وأخشى أن كل عودة لا تعني الرجوع».
وقف…
ترك الغرفة…
أغلق الباب خلفه…
وفي قلبه صوت يتردد:
«عجيب… كيف لا نعرف قيمة الأشياء… إلا بعد أن تفقد قدرتها على حملنا».
