غضب الأردنيين.. لأجل الحقيقة لا من أجل تقرير عابر
بين الإنشاء والموقف.. مدرسة الدولة لا تُجامل في الثوابت
الدرس انتهى.. وآن أوان استعادة السردية الوطنية
لم يكن الغضب الأردني الأخير رد فعل مبالغاً فيه على تقرير عابر أو حملة إعلامية مشبوهة النوايا والأدوات، بل كان لحظة وعي جماعي، استعاد فيها الأردنيون سرديتهم الوطنية، وأدركوا أن ما يُشنّ على بلدهم ليس مجرد تشويه إعلامي، بل حرب نفسية تسعى لتحطيم الثقة بين الدولة وشعبها. لقد آن أوان الاستدارة إلى البلاد، ورفع منسوب اليقظة، وإغلاق الباب على من يرون في الأردن مجرد «ساحة» لا وطن، أو وظيفة لا رسالة.
ففي لحظة مفصلية من تاريخنا، استيقظ الأردنيون على وطنهم، لا لأن خطراً داهماً حلّ فجأة، بل لأن تراكم الظلم والتشكيك بلغ حداً لا يُطاق، وبات يتطلب وقفةً وطنيةً حازمة. لم تكن أزمة تقرير، بل اختبار وعي جماعي كشف صلابة سرديتنا التي ما فتئت تتعرض لمحاولات التشويه من جهات خارجية، وربما – ويا للأسف الشديد- داخلية أيضا.
نحن في الأردن لا نفتقر إلى أدوات المواجهة، لا سياسياً ولا إعلامياً. هذا بلد بناه الأردنيون على عقلانية في التفكير وواقعية في الطرح، لا على العنتريات الخطابية، وذلك منذ عهد عبدالله الأول، الذي ظل يؤكد أننا في الأردن مع فلسطين لأنها نحن، ولن تكون المزايدات في يوم من الأيام بديلاً عن الموقف المسؤول. لقد قدّم الأردن نموذجاً ثابتاً في الإقليم، تفادى الانهيارات، وتجنب المغامرات، واختار طريق الاستقرار. وهذا ما لم يغفره له كُثر، ولاحقاً تمنّى خصومنا لو أنهم تبنّوا مدرستنا، لا شعارات من رفعوها في الساحات وخانوها في الغرف المغلقة. ولو فعلوا ذلك لما انتهوا إلى ما انتهوا إليه من هزائم تلاحقهم طوال الوقت. إذ ليس المهم أن ترضي الجميع، بل أن تبقى صادقًا مع نفسك وشعبك.
وها هي التسجيلات المسرّبة حديثًا عن زعماء، طالما اعتبرهم البعض رموزاً للكرامة، تظهر تناقضاً صارخاً بين المعلن من الكلام والشعارات، وبين ما يُقال خلف الأبواب المغلقة بلغة واقعية باردة لا تخلو من التواطؤ. وهنا يبرز الفارق بين مدرسة الإنشاء ومدرسة الدولة. فالأردن، رغم كل الضغوط، لم يخن قضاياه، ولم يساوم على مواقفه، بل دفع أثماناً باهظة من أجل التزامه الأخلاقي تجاه فلسطين، وها هو يُجازى بالجحود.
الغضب الأردني الأخير، إذاً، لم يكن من أجل تقرير نشرته مجلة بريطانية هامشية، بل من أجل الحقيقة، من أجل احترام الذات الوطنية، من أجل أن نضع نقاط المصالح الوطنية فوق حروف روايات المشككين وذوي المآرب الخبيثة. ومن أجل أن يعرف الجميع أن هذه البلاد ليست مادة للاستهانة أو للاتهام الرخيص. كان أيضاً، غضباً على قلة تعيش بيننا وتتنفس من هوائنا، لكنها تبيت وقلبها معلق بمشاريع التخريب والافتراء.
الذين انتفضوا بعد الكشف عن خلايا كانت تخطط لإيذاء الأردن في نيسان الماضي، لم يفعلوا ذلك حبًا بفلسطين، بل لأن انكشافهم أسقط وهمهم الأكبر: مشروع «التحرير» الذي بات غايته التخريب لا الإنجاز، والذي يعلم أصحابه جيداً أن لا الموازين الدولية ولا الظروف تسمح بذلك، ومع ذلك يُمعنون في الاندفاع كأنما الخراب في ذاته هو الغاية.
وإن لم يكن خافيًا على أحد، فإن تياراً متطرفاً داخل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، يتصرف اليوم وكأنه في حالة حرب مفتوحة ضد الأردن. يصدر البيانات ويطلق المنصات، ويكتب تقارير موجهة، والمجلة البريطانية التي روجت لاتهامات ملفقة بحق الأردن ليست إلا جزءاً من هذا الجهد المنسق.
من يلومنا على الغضب، يجهل أن هذا الوطن واجه عبر تاريخه، قوى حاولت كسر ثباته فلم تنجح. فمن تهديدات «داعش» و«القاعدة»، إلى محاولات الاختراق من التنظيمات السياسية المتطرفة، فذهبوا هم إلى ما يستحقون وبقيت البلاد منارة للوطنيين وأصحاب الفكر الحر المستنير. لأن فيه دولة راسخة، وجيشًا محترفًا، وشعبًا لا يُشترى ولا يُخدع.
لقد وقف الأردن منذ اليوم الأول للحرب على غزة، منفردًا تقريبًا، في وجه سردية الاحتلال، وتمكّن من كسب تعاطف دولي يعيد التذكير بجذور القضية الفلسطينية وحقوق شعبها، وينسف افتراءات الاحتلال. وفي مقابل ذلك، انهالت علينا حملات التشويه، واتُهمنا زوراً بأننا نخذل غزة، لا بل إن هناك من يريد أن يُشعر الأردنيين بأن كل قطرة دم تسيل في غزة نتحمل نحن في الأردن مسؤوليتها!!. أي ظلم وأي تزييف وأي افتراء، رغم أن لا شعباً في العالم تفجّرت فيه الغضبة على المجازر في القطاع كما تفجّرت في قلوب الأردنيين.
الدرس انتهى يا سادة. لم يعد هناك مكان للغموض أو التردد. المعركة الآن ليست فقط ضد التشويه، بل معركة وعي داخلي، ضد من يروّج للهرطقات، ويشكك بالهوية، ويرى في الأردن مجرد كيان وظيفي، أو جغرافيا لحماية المحتل!. هؤلاء لا يعرفون أن هذه الأرض أنجبت رجالات لم يفرطوا بوعد، ولا باعوا موقفًا، ولا جعلوا من دماء الأبرياء سلعة للتكسب السياسي أو المالي.
نعم، سنبقى مع فلسطين، لأن هذا في صميم وجداننا، كما عبّر عن ذلك جلالة الملك عبدالله الثاني في أكثر من مناسبة، بتأكيده أن «الفلسطينيين ليسوا وحدهم»، لكننا أيضاً سنكون مع الأردن؛ مع أمنه، واستقراره، واقتصاده، ومكانته التي طال انتظارها.
فمن لا يحمي وطنه لا يحق له أن يحلم بتحرير غيره.
