(شياكة) محمد عبد الوهاب، و(تسريحة) شعرأنور وجدي، وجمال فاطمة رشدي أو راقية ابراهيم، هكذا كانت مواصفات النجومية بفترة الأربعينيات وما قبل، والاّن تغمر السعادة الوجوه في حال سماع احدهم بأنه شبيه احمد زكي أو عادل امام وقبول وارتياح على الجانب الاّخر يعيشه المشاهدون مع اطلالة عبلة كامل وسوسن بدر، ورغم افتقاد هؤلاء لمعايير (الوسامة) التي فرضتها سينما زمان.
هذا التغيُّر بالمفاهيم يعود للنقلة النوعية التي أحدثتها السينما المصرية بدءا من أوائل الخمسينييات بعد ان كسرت القالب التقليدي لمفهوم النجومية، وخيرا فعلت السينما المصرية بهذه الجزئية تحديدا والتي شكلت ظاهرة سينمائية باتت تعرف ب
(البطل الشعبي) ما احدث تغيرا ايجابيا في المفاهيم والسلوك لدى الغالبية العظمى من الناس في مصر والوطن العربي.
مكتسبات..
(بطل) هي واحدة من المسميات الجميلة المحببة للنفس، وتسعد من يطلق عليه هذا الوصف سواء أكان تلميذا على مقاعد الدراسة أو جندي مرابط على الحدود، أوحتى رأس الهرم في الدولة، ولهذا النوع من التماهي جذوره العربية القديمة إذ تربى الإنسان منذ الصغر على سير الأبطال من خلال الأسطورة والسير الشعبية على لسان الحكواتي أو الراوي، وتخليد التاريخ القديم والحديث لأبطال كُثُرْ وتسمية شوارع ومدارس تحمل أسمائهم.
نسبة كبيرة من هؤلاء انطلقوا من الأوساط الشعبية، فتأثروا وأثروا بها، السينما رصدت عينة من هذه النماذج، وساهمت هذه الشخصيات بتقديم مكتسبات للسينما والممثلين أيضا، بصفتهم الملهم لتقديم مواضيع وافكار سينمائية خلاقة نجم عنها افلاما متميزة، وعلى الجانب الاخر فإن ممن قدموا دور البطل الشعبي أصبحوا نجوما كبارا بفضل هذه الأدوار، أمثال فريد شوقي وشكري سرحان ومحمود المليجي وعماد حمدي وسعاد حسني وماجدة وشادية وغيرهم.
رقابة..
بفترة الحكم الملكي في مصر حضر البطل الشعبي في نسبة قليلة من الأفلام، وواجه صناع هذه الأعمال عقبات كثيرة أدت لإيقاف عرض بعضا منها، ويعلل النقاد السينمائيون ذلك لتخوف وحساسية الرقابة من التعامل مع موضوع العمال والفلاحين تحديدا باعتبار هذه الفئات محورا رئيسيا في قصة وسيناريو الفيلم،لارتباط هذه الرموز الشعبية بالفكر الشيوعي والاشتراكي ما قد يؤدي لتثوير الناس حسب منظور الرقابة اّنذاك، وهذا لوحده كان كفيلا بمنع العرض.
فيلم (العامل) انتاج «1943» لحسين صدقي وفاطمة رشدي واحد من الأعمال التي منعتها الرقابة وبأمر من الملك فاروق شخصيا وقتها، ولم يسمح بعرضه الا بعد اجراء تعديلات وحذف وإضافة، ويحكي قصة عامل مصنع يحرض العمال على المطالبة بحقوقهم والإضراب لتحقيق ذلك باعتباره حق يكفله الدستور.
(السوق السوداء) يعد نموذجا اخرا في تقديم البطل الشعبي، وعرض عام 1946 من اخراج كامل التلمساني وتمثيل عماد حمدي وعقيلة راتب، ويتحدث عن شاب يحرض أهل الحارة على مقاومة جشع البقال والفران اللذان يحتكران السوق بتخزينهما للبضائع مستغلين احداث الحرب العالمية الثانية لمضاعفة الأسعار، ومن الأعمال التي تندرج ضمن هذا السياق فيلم (ابن الحداد) 1944 ليوسف وهبي ومديحة يسري، وفيلم (المظاهر) 1945 تمثيل رجاء عبده ويحيى شاهين.
تغيير..
تعتبر ثورة يوليو المصرية 1952 هي صاحبة الفضل الأول بالتغيير الممنهج والمدروس في إبراز دور البطل الشعبي على الشاشة الكبيرة، بعد أن كان بطل الفيلم ما قبل الثورة هو ابن الباشا أو الرجل الثري أو الضابط والقاضي الذي يشترط أن يكون من أبناء الذوات، من هنا غيرت الثورة هذا المفهوم وأصبح بطل الفيلم الفلاح الذي أطل على المشاهدين بملابسه التي يغمرها الطين، والعامل (العرقان)، والجندي في بشرته السمراء الداكنة، والطالب الفقير الذي يدرس أو (يذاكر) على ضوء فانوس او شمعة، وفي سياق الفيلم يعيش هذا الإنسان أيضا قصة حب كسائر ا?بشر، أي ممكن أن يَحِبْ أو يُحَبْ والغاية من ذلك إعلاء قيمة الفرد وفي كل الميادين بهدف حشد كل الطاقات في مشروع النهضة المراد تحقيقه اّنذاك.
ريِّسنا ملّاح..
وأغلب من كتب هذه النوعية من الأفلام كان يرمز من خلال هذه الشخصيات للبطولة الفردية المتمثلة بالرئيس جمال عبد الناصر، وهو ترجمة مباشرة لتغني عبد الحليم في (بطل الثورة) ابن الطبقة الشعبية: ريِّسنا ملّاح ومعَدِّينا.. عامل وفلاح من أهالينا.
(باب الحديد) و(أبوحديد) فيلمان من انتاج 1958 وبطولة فريد شوقي، برز من خلالهما دور البطل الشعبي الذي يعكس شعارات المرحلة السياسية وقتها،ففي فيلم (باب الحديد) ليوسف شاهين تصدَّر عامل محطة القطار الدفاع عن مطالب وحقوق العمال وتشجيعهم على انشاء نقابة تتبنى مطالبهم، أما فيلم (ابوحديد) فكانت البطولة للجندي العائد بعد الإنتهاء من الخدمة العسكرية، ويتضامن مع الصيادين في مقاومة احتكار تاجر الاسماك للصيادين من خلال الوكالة التي يمتلكها، واعادة احياء مؤسسة تعاونية تعيد للصيادين حقوقهم وتلغي جشع التاجر المتحكم في رزقه?.
رجل الدين..
وعلى عكس الدور السلبي لرجل الدين بفيلم ابو حديد وأداه الفنان عبد الوارث عسر، وكان متواطئا مع التاجر المحتكر ويشاركه في تهريب المخدرات أيضا، فلقد ظهر رجل الدين في دور بطل شعبي بأفلام تم انتاجها بالفترة الناصرية (1952–1970) ومنها دور حسين رياض بفيلم (بور سعيد) 1957 في شخصية الشيخ الذي يحث أهالي بور سعيد على مقاومة العدوان الثلاثي الذي وقع على مصر عام 1956، وأيضا شخصية الشيخ ابراهيم بفيلم (شيء من الخوف) 1969، وأداها يحيى شاهين الذي يقود جموع واهالي في مسيرة لإسقاط رمز الإستبداد والطغيان في القرية.
ولا بد من وقفة مع فيلم (ادهم الشرقاوي) انتاج 1964 للمخرج حسام الدين مصطفى، وقدم دور ادهم الفنان عبدالله غيث وميزة هذا العمل اعتماده على الموروث الشعبي الذي تعايش معه كثيرون من خلال استماعهم لرواة السير والملاحم الشعبية وهذا ما ضمن نجاح العمل عندما تحول لفيلم سينمائي، وجاء معبرا عن شعارات الثورة الرامية لمقاومة المستعمر والمحتل ومحاربة الإقطاع، وعزز نجاح الفيلم مشاركة عبد الحليم الغناء بصوته ممجدا بتاريخ ونضال ادهم الشرقاوي وصحبه كمساهمة بتعزيز ودعم الحقبة الناصرية وقائدها.
سيد درويش..
وفي نفس المسار يوظف فيلم (عنترة بن شداد) 1961 السيرة الشعبية لعنترة في مقاومته للذل والعبودية وسعيه للحصول على حريته.
كثير من المطربين جسدوا البطولة الشعبية في الحقيقة وعبروا عن الدور التنويري باستنهاض الهمم وتجسيد احلام الناس عبر اللحن والغناء، والأكثر تعبيرا عن ذلك تمثله مسيرة فنان الشعب سيد درويش، ودوره من خلال اغانيه في تحريك الشارع لمقاومة المستعمر البريطاني، وكان في مقدمة المتظاهرين الداعمين للزعيم السياسي سعد زغلول، وهذا ماتم تجسيده بفيلم سيد درويش انتاج 1966 واخراج احمد بدر خان، وأدى دوره الفنان كرم مطاوع.
بعد النكسة..
احدثت هزيمة أو نكسة 1967 شرخا قويا في الذات العربية وانعكس ذلك على تغيير الكثير من المفاهيم والسلوكيات، ومنها صورة البطل الشعبي في السينما ما بعد الهزيمة، ولم تسلم الثورة من النقد والإدانة اّنذاك، وكما حدث في الأربعينيات عادت المواجهة مع الرقابة، واستطاعت بعض الأعمال تخطي هذا الحاجز للحنكة باستخدام الرمزية غير المباشرة في طرح الأحداث ولم تنتبه اليها الجهة المخولة بإجازة العرض، وبعض الأعمال تم السماح بعرضها من قبل الرئيس عبد الناصر شخصيا, ونجح مخرجوا هذه الأفلام بإيصال الرسالة لغالبية الناس في الوطن العربي ?غم تباين المستوى الثقافي والعلمي فيما بينهم.
تمرد سينمائي..
ما قبل النكسة قدم المخرج توفيق صالح فيلم (صراع الأبطال) 1962، والبطل الشعبي هذه المرة طبيب تم تعيينه في قرية يعاني أهلها من الأمراض وتسلط رجل اقطاعي يتحكم بمصائرهم، وينجح في قيادة أهل القرية بتخطي المرض (الكوليرا) وشفائهم منه، ويتم تعيينه مسؤولا من قبل الوزارة لمعالجة المرض في قرية اخرى.
بعد ذلك احدث توفيق صالح حالة من التمرد السينمائي إذا جاز التعبير في إدانة واضحة للحقبة الناصرية ووجه سهام النقد للنظام السياسي بتحميله مسؤولية هزيمة 1967 عبر رمزية لا تخف على كثيرين ممن شاهدوا هذه الأعمال، ويكفي التوقف أمام فيلمه (السيد البلطي) والذي جاء بعد أشهر قليلة من النكسة، وحمل ادانة صريحة لفكرة البطل الفرد المتمثل بالرئيس عن رواية (زقاق السيد البلطي) للكاتب صالح مرسي، في مقاربة مع حكاية السيد البلطي كبير العائلة التي تحكم الشط والصيادين، ورغم وفاته بقي أقرب للخرافة المتمثلة بمقامات الأولياء الصالحي? يلتجيء اليه الإبن مناجيا بعد حالة الخوف والقلق التي انتابته من وصول مركب بتقنية حديثة يهدد زعامة العائلة للشط كونها لازالت تتعامل مع الصيد بوسائل بدائية عفى عليها الزمن، وغير قادرة على منافسة التطور في المراكب حديثة الصنع.
محمد ابو سويلم..
وفي عام 1968 ومن اخراجه أيضا قدم صالح فيلم (المتمردون) لشكري سرحان وزيزي مصطفى، وكما حدث بفيلم صراع الأبطال عاد الطبيب أيضا ليقود حالة تمرد المرضى على المصحة التي تهمل علاج الفقراء ممن يشملهم العلاج المجاني ويجد المرضى أنفسهم قد سيطروا على المستشفى الا انهم لايملكون الوعي الكافي لإدارة هذه المصحة، كمعادل موضوعي للثورة التي افتقدت الخبرة والدراية في ادارة شؤون البلاد.
المخرج صلاح ابوسيف انتهج الأسلوب نفسه وعبر عن الرؤيا ذاتها من خلال فيلم (القضية 68) انتاج عام 1968 أي بعد الهزيمة مباشرة، والبطل الشعبي هنا منجد عبد السلام رئيس لجنة الحي، وجاءت الرمزية والدلالة في تصوير الوضع القائم من خلال بناية جدرانها مشروخة واّيله للسقوط، البعض يطرح ترميم المبنى واّخرون يدعون للهدم وإعادة البناء من جديد في رسالة واضحة للمعنيين بعد النتائج التي خلفتها النكسة.
محمد ابو سويلم يبقى البطل الشعبي الفلاح الأشهر في السينما العربية وبحضوره المبهر بفيلم (الأرض) 1970 ليوسف شاهين، وأدى الشخصية الفنان محمود المليجي بأروع ادواره، وتحديدا في مشهد مقاومته لقوات الأمن التي تحاول انتزاعه من أرضه، وهو متشبث في الأرض والدماء تنزف منه وعلى وقع اغنية (الأرض لو عطشانه.. نرويها بدمانا).
البطل في عصر الإنفتاح..
أفلام المقاولات كان المصطلح الذي أطلق على نوعية كبيرة من أفلام عصر الانفتاح بمرحلة السبعينييات وما بعد، ومع ذلك ظل البطل الشعبي الذي يتبنى قضايا الناس ويدافع عن المظلومين حاضرا ايضا بمجموعة من الأفلام مثل: سواق الأتوبيس 1983، اّخر الرجال المحترمين 1984، البريء 1987 كتيبة الإعدام 1989، وهي اعمال للمخرج عاطف الطيب، واذا كان من رسالة هامة قدمتها هذه الأعمال، فأنها افشلت مقولة (الجمهور عايز كده)، ففي الوقت الذي كانت تعرض به أفلام المقاولات،كانت هذه الافلام الملتزمة تشهد ازدحاما واقبالا ملفتا على شباك التذاكر، ?الإضافة لأن المخرج الطيب ومن عمل معه بهذه الأعمال هم أصحاب توجه وطني وثقافي كونهم ابناء المرحلة التي عاشت حلما قوميا انعكس جليا في ما قدموه من أفلام.
الفنان عادل امام ورغم هجوم النقاد على بعض افلامه التي تحابي السياسة الإعلامية للدولة، الا انه ظهر في شخصية البطل الشعبي المنتمي لبسطاء الناس وقضاياهم في أعمال متميزة مثل :الغول 1983، اللعب مع الكبار 1991، الإرهاب والكباب 1992 والمنسي 1993، الفنان عزت العلايلي قدم هذه الشخصية باقتدار أيضا بأعمال منها: السقا مات 1977 والتوت والنبوت 1986.
تحيُّز ذكوري..
تبرئة السينما العربية من تهمة (التحيز الذكوري) ليست بالمهمة السهلة، ومنها ما يتعلق بهذا المجال إذ ارتبطت البطولة الشعبية بالرجل عموما، وكان حضور المرأة كبطلة شعبية في السينما قليلا قياسا بالرجل، وتوزع حضورها في اتجاهين إما في دور مساعد كحبيبة وملهمة للبطل الشعبي، أو يتم اللجوء اليها لأغواءه بهدف تحييده عن مساره وقناعاته بإيعاز من جهة أخرى تسعى للخلاص من هذا الشخص.
فيلم (الورشة) 1940 واحد من الأعمال القليلة التي أنصفت المرأة في هذا الجانب نوعا ما، وتوجتها كبطلة من رحم الشعب الذي تنتمي اليه، وأدت الشخصية الفنانة عزيزة امير التي تحمي ورشة زوجها من الضياع، وتشرف عليها وتنزل لميدان العمل بملابس العمال بعد اختفاء زوجها وفشل شقيقه المستهتر من القيام بهذه المهمة.
فؤادة..
الفنانة ماجدة كان لها نصيب من النجاح بأداء هذه الشخصية بفيلم (ارضنا الخضراء) 1956 وقدمت دور المرأة التي تقود ابناء قريتها لمقاومة الطامع بالإستيلاء على اراضيهم، بالإضافة لتجسيدها شخصية المناضلة الجزائرية جميلة بفيلم (جميلة بوحيرد) 1958.
وعودة لفيلم (شيء من الخوف) 1969 عندما تتحدى فؤادة (شادية) سلطة وجبروت عتريس التي يمارسها على اهالي القرية لدرجة ان منع عنهم المياه، وتتحداه فؤاده في هذا الموقف وتفتح (الهويس) او البوابة التي تحجز المياه، ويتدفق الماء لسقاية ارض قرية (الدهاشنة) في واحد من المشاهد الجميلة في تاريخ السينما العربية.
أم الواد..
الفنانة سعاد حسني في شخصية فاطمة بفيلم «الزوجة الثانية» 1967، تعيد الحقوق لأصحابها بعد ان استطاعت وبالحيلة التمرد على العمدة وافقدته السلطة التي خولته الاستيلاء على أراضي ومواشي الفقراء، وانتزعها هي أيضا من زوجها مخالفا بذلك الشرع والدين، الا انها تنجب مولودا من زوجها الشرعي ابو العلا كناية عن سقوط سلطة العمدة كما ارتأى مخرج الفيلم صلاح ابوسيف، والولد هنا هو الشرعية الحقيقية والمستقبل الواعد، وهذا ما أكدته فاطمة وهي تخاطب ضرتها حفيظة العاقر التي لاتنجب: «زي ما ليكي انا ليَّا واكثر.. أنا معايا الواد.. اّني ?م الولد» .