الطبيب الإنسان رضوان السّعد، عاش في قلوب المتعبين ودُفن في قلوبهم؛..
مرّت جنازتُه على صفحاتهم المتوشحة بالحزن، وحروفهم المنقوشة على النعش وحواليه؛ أما وصيّته فلم يكتبها هو، بل كتبها مراجعوه أنفسهم، ولا أحد سواهم، مراجعوه المتعبون الحيارى، الذين لم يجدوا كبير عناء في توفير الدينار والدينارين كشفية وجع أو لقاء يد ظلّت تمسح همومهم وتأسى لأوضاعهم قبل أن تكتب لهم مرهما يمسحون به أرجلهم التي على ما يبدو عجزت عن أن تحمل أحلامهم الجاثية الضائعة في زحمة اليأس والقنوط واللاأمل ومرارة اللهاث والكدّ،.. خصوصاً في مخيّم قدّر عليه أن ينوء بحمولة الوطن المسلوب عنوة والحلم المنكسر بعدّ الاعمار.
وحين ينضم جلالة الملك عبدالله الثاني إلى المترحمين على هذا الإنسان النبيل، فتحمل تغريدته إحساسا نبيلاً أيضا بالأردن بلد الخير والعطاء الذي لا ينقطع منه الخيرون، فبالتأكيد، كما يعبّر جلالته، كلنا فخر أنّ من بيننا من تفانى في قضاء حوائج الناس وسعى للخير والعمل النافع من أجل مجتمعه ووطنه، فرحم الله الطبيب رضوان السعد صاحب الروح النبيلة...
كانت يد الدكتور رضوان السعد وما تزال تمسح عن المتعبين عرقهم الطازج من الورشات والدكاكين والسرافيس من إربد باتجاه عمان ومكابدة الآليات الثقيلة وزراعة القهر في بساتين ذوت قبل أن تخضرّ. كان بإمكان الطبيب العام، وكثيرٌ من الأطباء العامّين خيرٌ وأحبُّ إلى المرضى من أطباء الاختصاص المفعمين بالمادة ونهب الجيوب،..
كان بإمكانه أن يرحل صوب عمان، في أرقى أحيائها فيتاجر بالمهنة، لكنّه أبى إلا أن يخلص لمرضاه، حتى مع شكاوى أطباء واستنفارهم، خوفا وغيرةً، وربما طلبا للعيش. قد يكون مثل رضوان السعد نماذج، ولكن، بالتأكيد هناك كثيرون ليسوا مثله ولن يكونوا مثله أطباء ومديري مستشفيات وتجّارا عابرين للحدود بمستلزمات الطبابة والتداوي،.. حتى بالأعشاب.
تجربة الدكتور رضوان السعد كان لها مثيل في قرى أردنية وفي مناطق، مثل ناعور؛ إذ كان الدكتور كامل سليم الدواني رحمه الله، والذي ألِمتُ كثيراً لموته قبل سنوات، يداوي الناس بالأقساط ويذهب عنهم اليأس بتسليتهم والترويح عنهم لدرجة أنه كان يقسّط عليهم الكشفية، فيشاركهم أفراحهم وأتراحهم وكان ذا قدر وقيمة عند كبار السن الذين كانوا ينصحون بألا يذهب مريض إلا إلى الدكتور الدواني رحمه الله،... أقول قد يكون مثل السعد نسخ طيبة انسجمت مع الناس وألفت العيش بينهم،..
ولكنّ الدكتور رضوان السعد، وبما سمعت عنه وعن رفضه الكشفيات واضطراره إلى أن يرفعها إلى دينار فدينارين رضوخاً لضغوطات، يُعدّ أنموذج النماذج في الانسجام بين الطبيب الإنسان والمريض الإنسان المحروم إلا من نبض يتسارع أو عين تدمع أو ظهر انحنى أو أنفاس مكتومة وعصا أكلتها "أرضة" هذا الزمان. لم يكن الدكتور رضوان السعد مضطرًا لأن يظهر إخلاصه للمهنة ليكرم أو يشتهر، بل إن موته الذي ترك ذكريات الرواد والأجيال تحمله إلى كل الدنيا، لا سفيرا للنوايا كما يفعل مترفو الشهرة والباحثون عما يكملون به كلّ أهوائهم الاجتماعية في الصحافة والتلفزيونات والجمعيات،.. هو موته ذاته الذي جعلنا نفضح معه كثيراً من الأحياء.
ليس مطلوبا من الأطباء أن يتخلوا عن كشفياتهم، فذلك عبث، وليس مطلوبا من المستشفيات الخاصة أن تكون مستشفيات حكومية، فذلك يلغي التنافس والجودة،.. غير أن المطلوب حالات يتحول فيها الطبيب أو مدير المستشفى إلى إنسان، وينسحب ذلك على مهن حيوية، كالتعليم الذي نواجه محنته اليوم، فكثيرٌ من معلمينا كانوا يعلمون بالمجان في بيوتهم وفي المدارس بعد انتهاء الدوام. إنّ الرسالة التي يخطها الدكتور رضوان السعد وأصحاب القلوب الطيبة مثله هي أن نحفز في داخلنا الإنسان لينمو؛ الإنسان الذي تجمّد كثيراً في غمرة اللهاث المضحك في هذه الحياة، اللهاث الماحق الذي لا ينقطع الا بالموت، في حين أنّ لهاثنا نحن حتماً سيظلّ يتكرر، بالأمس واليوم وغداً، وبعد الموت..
