من طبيعة الانسان، نسيان اغلب ما يمر على حياته من مثيرات وحواس، ربما كانت تدغدغ مشاعره وابداعاته او شكلت شخصيته العاطفية او الانسانية والحضارية.
..والغناء العربى الحديث والقديم، تكون من استعراض وأداء ألحان مختلفة ومقامات موسيقية تنوعت عبر شخصيات الغناء العربي ورموزه في مجالات الغناء والتلحين والتوزيع والموشحات ومختلف الاشكال الموسيقية الشرقية والعربية الاسلامية.
ان البحث في المنسي من تراث الاغنية العربي ، هو نبش في القوالب الغنائية القديمة، التي باتت مع جهود مبدعيها منسية الى حد ما.
الباحث والكاتب زياد عساف ظل يقلب ما نسي من الرموز والاغاني والحكايات وخص ابواب - الرأي بثمرات جهودة التي تنشرها منجمة كل ثلاثاء في هذا المكان من الملحق حيث سيتم طباعته على اجزاء في القاهرة.
لقد ارتقى الغناء العربي مع ظهور الحركة القومية العربية فى مواجهة الثقافة التركية السائدة على يد الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب وعبده الحامولى ومحمد عثمان، عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وطروب وفيروز وام كلثوم كما لحن وابدع جماليات حياتنا وفنوننا امثال: سلامة حجازى وابراهيم القبانى وداود حسنى وأبو العلا محمد وسيد الصفتي محمدالقصبجى وسيد درويش وزكريا أحمد ومحمود صبح ومحمد عبد الوهاب، ورياض البندك وجميل العاص ومحمد القبنجي وغيرهم كثر.
”محل خريستو”، من هنا بدأت حكاية احمد العاشق للموسيقى ابن الست سنوات، حين وقف ذات يوم برفقة شقيقه امام واجهة هذا المحل الكائن في حي مصر الجديدة ، اختار يومها خنجراً و اختار شقيقه اّلة كمان مصنوعة من الصفيح، مل احمد من لعبته و أجرى عملية مبادلة مع شقيقه، أخذ الكمان و بدأ يعزف عليه بعفوية الصغار، وبعد شهر ونصف كانت المفاجأة ان استمع اليه والده الموسيقار رياض السنباطي في أحد الأيام يعزف لحن ”يابهية وخبريني”، وانتابته مشاعر مختلطة حينها مابين الدهشة و الأمنيات بأن يصبح السنباطي الصغير فناناً ذا شأن في يوم ما.
حوار الأجيال ..
حقق احمد بعضاً من أمنيات والده، وأخفق في محطات أخرى كثيرة، ويبقى اهم ما في تجربته المنسية انها تأخذنا للبحث في محاور عديدة مثل التغريب في الموسيقى و ظاهرة التوريث في الغناء العربي والألحان التي لم تكتمل مع وفاة مبدعيها .
البيت، كان هو معهد الموسيقى الأول الذي التحق به احمد المولود عام 1945 ، في هذا البيت تعلم أصول الموسيقى على يد والده السنباطي الكبير، ثم التحق بالكونسرفتوار وتخصص باّلة الجيتار و البيانو و الكمان، ووضع نصب عينيه منذ البداية ان يتخذ اسلوباً وطريقاً مغايراً عن والده الذي شجعه على ذلك مع بعض النصائح الموثقة التي وجهها له من خلال اللقاء الذي جمعهما معاً أواخر عام 1973 في البرنامج الإذاعي - حوار الأجيال - أعدته و قدمته الإعلامية عديلة بشارة.
التحق كعازف على الكمان بفرقة ام كلثوم لمدة ثلاث سنوات و شارك معها بمجموعة من الحفلات، ومنها التي خصصت لجمع الدعم للمجهود الحربي أثر حرب 1967، عندما شعر بالإكتفاء بعمله مع كوكب الشرق،كوّن فرقة موسيقية خاصة به تضم أوركسترا وسافر للعديد من الدول الأوروبية، أقام حفلات عديدة هناك ولمدة ثلاث سنوات، عاد بعدها لمصر وقد صقلته هذه التجربة كعازف و مغني و ملحن، وبدأ يفكر كيف يجمع بين الموسيقى الشرقية و الغربية في ثوب جديد مختلف، الجديد في تجربته تمثل بطريقة الظهور على المسرح ، وهو يغني مع أداء راقص في محاولة لمحاكاة جيل الشباب وقتها، خاصة و هو يعزف على الجيتار والهدف هنا تغيير الصورة النمطية التي تعوَّد عليها الجمهور وهم يشاهدون المطرب الذي يغني على العود، و يجلس منحنياً مع - النحنحه - التي يتبعها السعال أحياناً ، التغيير هنا ارتبط بالشكل، أما المضمون ومحاولة المزج ما بين الغناء الشرقي و الغربي فلم يوفق كثيراً في هذا المجال الذي أخفق به الكثيرون ممن جاؤوا قبله و بعده أيضاً .
البنات لازم تتجوز ..
فرصة من ذهب يتمناها أي مطرب حصل عليها في بداية مشواره عندما اتصل به المخرج علي رضا في أحد الأيام يعرض عليه دور البطولة بفيلم : البنات لازم تتجوز، مع نجلاء فتحي و رشدي أباظة و ليلى حمادة و يوسف وهبي، وتم عرضه في أواخر عام 1973 وشارك به كمغني و ملحن وراقص بالإضافة لبطولة العمل كممثل، في هذا العمل قدم مجموعة من الأغنيات منها استعراض الأطفال و دنيا جديدة، إلا أن قصة الفيلم كانت من النوع العادي التقليدي الذي يهدف لاستثمار موهبة مغني ظهر حديثاً ضمن حكاية و سيناريو بقالب تقليدي ، كما حصل مع عديد من المطربين أمثال كمال حسني و ماهر العطار و عبد اللطيف التلباني وغيرهم، لم يوفق السنباطي الصغير بهذه التجربة أيضاً والتي انسحبت على اعمال أخرى شارك بها في السينما والتلفزيون فيما بعد مثل فيلم: انا و العذراء و الجدي عام 1989 ، و الفيلم التلفزيوني: الوسام و السهرة التلفزيونية: رسالة الى أبي ،ومشاركته بواحدة من حلقات فوازير الخاطبة مع الفنانة نيللي عام 1981 .
عجيبة ..
تجربة احمد السنباطي يمكن تقسيمها الى ثلاث مراحل ، وتتوزع مابين مرحلة الاستقلال بشخصيته الفنية وتقديمه لمجموعة أعمال من الحانه و الحان غيره ، و توجهه بعد ذلك للتغني بتراث والده و استعادته لمجموعة من روائعه، ثم عودته لتقديم أغاني خاصة به.
في البداية غنى ولحن مجموعة من الأغنيات لاقت استحسان لدى جيل الشباب اّنذاك ومنها - عجيبة - ومن كلمات هذه الأغنية:
رسمت العمر فرح كبير
وقلت اعيش و اغني واطير
مليت الدنيا بحبايبي حنان في حنان
زرعت الجنة حواليهم في كل مكان
ويا ريته نفع حناني يا عين .
وأغنية جميلة أخرى بعنوان : رحلة العيون من كلماتها :
في رحلة العيون كل شيء بيهون
وتدبل الظنون وتشوف الكون حنون
بيدبل زهر يومي ويبدأ فرح يومي
لو غرب زماننا و غرب حد فينا
يا دنيا صدقينا ان الفراق مش لينا
لا يقدر ييجي ليالينا ولا يغرب حد فينا .
تابع مشواره في تقديم مجموعة كثيرة ومن الحانه أيضاً مثل: لو كان مابينا بلاد ، تمنيني و تنساني ، رايحين للحب ، البحر و الليل و الهوى ،عملت المستحيل ، لحد امتى ، يا وردة ، منوَّر يا حبيبي ، يا أيام ، أغراب ، زي الزمن ، حلو زي السكر، الورد ،وقصيدة: لا تقلقي .
مين في الجمال قدك ..
اتبع رياض السنباطي مقولة: الأقربون أولى بالمعروف ، وخص ولده بمجموعة من الألحان منها:
مين في الجمال قدك، قمر الحرية، في عز الحب، لو ادوب في الحب منك، مالها تغيرت، احلم بيك،أمرك عجيب يا زمن وأغنية دينية بعنوان: بشوفك يا ربي، ومن القصائد لحن له أيضاً: لماذا لا يكون الحب في الدنيا لكل الناس شعر نزار قباني ، وقصيدة عش راضياً، ومن قصيدة رباعيات الخيام لحن له مجموعة من الأبيات مختلفة عما غنته ام كلثوم و نجاة الصغيرة وبلحن مختلف أيضاً .
”ألف نهار أبيض ” كان اّخر عمل غناه من الحان والده ، رغم مجموعة الألحان التي قدمها السنباطي الكبير له ، إلا أن قلة من هذه الأعمال التي علقت بأذهان المستمعين وأهمها : مين في الجمال قدك ، ويبقى الملفت للإنتباه أن رياض السنباطي صاحب لحن : قصيدة الأطلال ، والذي بألحانه حقق مطربون كثر شهرة واسعة و على امتداد الوطن العربي ، إلا أن مقومات صوت السنباطي الصغير لا تتسع لنوعية هذه الألحان ، ولم تكن توجد فرصة اهم من هذه تأخذه لعالم النجومية و الشهرة.
في محاولة منه لتصويب مسيرته الفنية، لجأ احمد لإعادة أغاني والده القديمة، واستعاد بصوته مجموعة من ألحانه التي شدت بها أم كلثوم بالأصل و منها : الأطلال و عودت عيني على رؤياك و الأغنية الوطنية : حق بلادك ، وأعاد التسجيل بصوته مجموعة من الأعمال التي لحنها و غناها رياض السنباطي مثل : أشواق التي غنتها ميادة الحناوي أيضاً ، و اله الكون ، على عودي،مسيرنا بعد فرحتنا ، فاضل يومين التي غناها رياض السنباطي بفيلم : حبيب قلبي وشاركته البطولة هدى سلطان عام 1952،ومن نفس الفيلم أعاد أحمد دويتو :عندي سؤال ، مع المطربة اللبنانية سمر كموج التي أخذت مكان هدى سلطان في هذا اللحن ، و لا يوجد مقارنة في هذه الأعمال المعادة بين التقليد و الأصل ،وبالتالي لم تحظ هذه التجربة بالتوفيق الذي كان يرجوه السنباطي الصغير .
تعاون أحمد مع ملحنين اّخرين ، غنى من ألحان محمود مندور : بشاير النور ، و : تقابلنا مرة تانية للموسيقار محمد سلطان ، وشارك بالغناء في أوبريت : مواكب السلام من الحان سيد مكاوي ، مع مجموعة من الفنانين ومنهم ياسمين الخيام و علي الحجار و محمد الحلو ، قدم احمد مجموعة الحان لغيره من المطربين مثل وردة الجزائرية التي خصها بأغنية : مش هتغيَّر ، ومن الحانه غنت أيضاً المطربة لطيفة التونسية .
الحان مؤجلة ..
من الخسارات التي عاشتها الأغنية العربية تأجيل طرح مجموعة من الأغنيات للجمهور بسبب وفاة الملحن أو المطرب الأصلي، في بعض الحالات تم تقديم هذه الألحان المؤجلة لمطربين اّخرين ، ومنها على سبيل المثال أغنية : احلى طريق في دنيتي ، التي لحنها محمد سلطان لعبد الحليم وتوفي حليم قبل ان يسجل اللحن بصوته و غنتها فايزة احمد بعد ذلك ، فريد الأطرش كان قد أعد لحن : كلمة عتاب لأم كلثوم في الأصل ، تراجعت كوكب الشرق عن هذا الإتفاق و توفي فريد وذهبت الأغنية لوردة الجزائرية ، بطبيعة الحال كان من الممكن ان تقدم الأغاني بشكل مختلف لو غناها المطرب الأصلي وتكون إضافة نوعية للأغنية العربية.
هذا الموقف عاشه احمد السنباطي بعد وفاة والده عام 1981 و لم يكن قد أنهى لحن أغنية : لا يا روح قلبي أنا ،للمطربة فايزة أحمد ، أكمل السنباطي الصغير لحن أبيه بطلب من فايزة ، وابقى اسم والده على اللحن ورفض رأي المنتج للأغنية بأن يضع اسمه هو على اللحن ، وأثناء عمل البروفات تعرف على فريال إبنة فايزة احمد وتزوجها و أنجب منها : رياض و فايزة .
بيني وبينك..
القضية الأكبر التي شغلت احمد السنباطي وحتى وفاته ، تمثلت بالألحان الثلاثة التي وضعها رياض السنباطي للمطربة فيروز عام 1979 وهي : بيني و بينك كلمات عبد الوهاب محمد ، و اّه لو تدري بحالي و أمشي اليك للشاعر اللبناني جوزيف حرب ، أثار احمد السنباطي هذه القضية في اللقاء الذي أجراه لمحطة الجزيرة تقديم غسان بن جدو في برنامج : الحوار المفتوح عام 2010 ، وتم بث تسجيل صوتي من البروفات التي أجراها رياض السنباطي مع فيروز أثناء زيارته لبيروت 1979 لتأكيد ذلك ، وما بين صمت فيروز وتراجعها عن تسجيل هذه الألحان ، ونفاذ صبر احمد جراء انتظاره لردها الذي قارب الثلاثين عاماً كما صرح بذلك من خلال هذا اللقاء لعدم اتمامها للإتفاق المبرم بينها و بين والده ، وتصريحه بتقديم هذه الألحان للمطربة سمر كموج مع تغيير كلمات الأغنيتين الخاصتين بالشاعر جوزيف حرب لإصرار الأخير أن تغنى نصوصه بصوت فيروز فقط ، وهذا بطبيعته لن يقدم هذه الألحان كما تمناها والده الذي كان يأسره إحساس فيروز كما صرح لإبنه في أحد المرات ، توفي احمد عام 2012 ولم يحقق هذا الحلم بالإضافة الى أحلام كثيرة أخطأت طريقها عبَّر عنها في واحدة من أغنياته بعنوان : ياللا يا دنيا بهذه الكلمات الاّسرة :
خلي حياتك غنوة طويلة
عيش اّمالك في معانيها
خلي العمر ليالي جميلة
وفي قرب حبايبك قضِّيها
ضم لقلبك كل حبايبك
تلقى الحب ينوِّر قلبك
تلقى العالم كله يحبك
إيه في الكون احلى من الحب.