ابواب - زياد عساف
العصر الذهبي للأغنية اللبنانية والذي بدأ مع منتصف القرن الماضي سيبقى الرافد لأهم كنوز التراث الذي تزهو به الأغنية العربية ، الا انه وفي الوقت نفسه يحتاج الى من يعيد الأعتبار لرموز كثيرة من المبدعين ممن وضعوا الأساس الصحيح للنهوض بالأغنية اللبنانية والتي عادة ماينسب الفضل بازدهارها للأخوين رحباني وبنسبة اقل لزكي ناصيف و توفيق الباشا ،وتم التغاضي عن من أسسوا للأغنية اللبنانية وبفترة الاربعينات تحديدا ،من ابرزهم فنان شامل ابدع في مجال الكلمة وعكست كلماته صوراً غنائية جميلة ، واتسمت الحانه بالبساطة و العفوية والعاطفة الصادقة،وفي مجال الغناء خص نفسه ببعض ألحانه الخفيفة المرحة و التي أداها بصوته ، أما معظم الحانه المتميزة كانت من نصيب العديد من المطربين اللبنانين والعرب ،منهم من حقق شهرة كبيرة من خلال الحانه التي احبها ورددها الناس ولسنوات طويلة دون ان يعي أغلبهم ان من كتب و لحن هذه الأعمال فنان مغمور اسمه «سامي الصيداوي» .
” سماعي .. ”
” سامي صاحي ” هو الأسم المثبت في شهادة ميلاده وأُطلق عليه لقب الصيداوي باعتباره من مدينة صيدا التي شهدت ميلاده عام 1913 ، بدأ خطواته الأولى من اذاعة القدس بفلسطين في أواسط الثلاثينات ثم اذاعة الشرق الأدنى والأذاعة اللبنانية التي تأسست عام 1938 فترة الانتداب الفرنسي بإسم ” اذاعة المشرق ” وأصبحت تعرف فيما بعد بإسم ” إذاعة بيروت ”.
الإختبار الأهم بالنسبة له عندما توجه في البدايات للإذاعة اللبنانية ليعرض لحن ” يا جارحة قلبي ” على رئيس الفرقة الموسيقية في الإذاعة اّنذاك عازف العود محيي الدين سلام ، ووقع يومها الصيداوي بحرج شديد عندما سأله على اي مقام قد لحّن هذه الأغنية ، فشعر يومها بالإرتباك لأنه اعتاد ان يلحن ” سماعي ” وبالفطرة وعندما لحنه على العود لم يكن يعرف بالمقامات الموسيقية ، الا ان جمال اللحن فرض نفسه عند رئيس الفرقة نهاية الأمر واقترح عليه ان تغني اللحن ابنته نجاح سلام ، ومع ان هذا اللحن ” يا جارحة قلبي ” قد عرّف الناس بسامي الصيداوي ، الا انه حقق الشهرة أيضا للفنانة نجاح سلام واعتُبِرَ بداية الإنطلاقة الحقيقية لها وعلى مستوى البلاد العربية عموما ، الجدير بالذكر ان الفنان صباح فخري قد اعاد هذه الأغنية بصوته ضمن سيناريو احداث الفيلم السوري ” غابة من الذئاب ” 1977، تفتحت قريحة الصيداوي بعد ذلك وأخذ يكتب ويلحن لإذاعة بيروت مجموعة من الأعمال اتسمت باللون الشعبي والذي اراد وعلى طريقته من ان يبرز الهوية الحقيقية للأغنية اللبنانية .
” اضحكي .. ”
يعتبر سامي الصيداوي صاحب مدرسة متفردة في مجال الأغنية اللبنانية الناقدة والساخرة ، و من خلال الإستماع لهذه الألحان التي قدم معظمها بصوته نكتشف الى أي درجة كان متعايشاً مع قضايا الناس على الصعيد الاجتماعي والسياسي وبخفة دمه المعهودة ، من مونولوجاته الجميلة والساخرة والتي اشتهر بها وهو يخاطب الحكيم المداوي ” يا حكيم يا حكيم اركض ليي ..يا حكيم دقتني البردية .. قالوا عن جهل الكبير أعمى البصيرة والبصر .. يا ويلي لو صح الخبر وسهرنا الله لا يقدِّر .. ورجعنا نسهر ونكبِّر .. شو بدنا نسطِّر لنسطِّر ..قرعتنا صارت مضوية» ، وللزوجة المتسلطة ” اضحكي .. اضحكي ولاتزعلي ..ولا تكبري هالمسألة .. انا من طبعي بخجل لما اشوفك بتخجلي .. تقوليلي كلمة ناشفة .. وتهبي مثل العاصفة .. وتصيري تقدّي مرجلة ” ، الا انه وبنفس الوقت تطرق لقمع حرية الرأي للمرأة في أغنية ” بوجودي مالك كلام ” وتتحدث عن خلاف بين رجل وزوجته ادى في النهاية لقتلها كونها تجرأت على مواجهة قرارات البيت ، ومن هذا اللون قدم أيضاً العديد من الأعمال منها ” يا ناعم ” ، ”سترك يارب ” ، ” ما بحسد غيرك ” ، ” اكتب لي مكتوب ” ، ” تصور وابعتلي صورة ”،“ مش مهضوم يا برهوم ”،” الكلام بسرك ” ، ”انت المحبوبة ” ،“ ع الماني ” ، ” ”هات ياللا هات ”، ” طمع الأهل ” ، ” طبعك حد ” ، ” شو بعد الشقى بقى ” ،“ على وعدو يا قلبي تصبَّر ” ، ” لبسك مهضوم ” ،“ لو كل مين بيعرف نفسه ” ، ” ما بعرف مين قابلو“ ،“ بقولولي ”، ” على ضفة نهر الأولي ” ،“ شوف يا الياس ”،“ ” مادام في مرقص ”، ” لبس القصير ”،” ماكسي ” ، ” ناس بتركض وبتتعب ” ، ” نيال اللي ماعندو قلب ” ، ” يا شوفير روِّق ” ، ” يا صايمين ” ، ” يا ناس لما تشوفونا ” ، ” عيني يا عيني ع الدلع ” ، ” عينك تشوف يا حبوب «، ” على علمي انك فهمان ” ،“ خاف من الله ”، و ” يا اخد القرد على ماله ” ومن أغانيه الناقدة للوضع السياسي في لبنان ” يا غادرة وين الوعد ” وهي عن الحكومات المتعاقبة التي لم توف بوعودها .
” يا طالعين ع القمر ..“
اعتاد سامي الصيداوي ان يحتفظ بالدفتر والقلم دائما ليبقى جاهزا لتدوين اي فكرة ولحن قد يخطر على باله فجأة والممتع ان العديد من اغنياته كانت وراءها مواقف طريفة وحكايات جميلة ومنها اغنية ” تندم ” التي تطرقنا لها بحلقة المطربة اللبنانية ” وداد ” والذي كانت تربطه بها وبزوجها الموسيقار ” توفيق الباشا ” صداقة متينة و تصادف بأحد الأيام ان كان في بيتهم وشهد خلافا بينهما عندما اراد زوجها الباشا ان يخرج بمعية سامي للمقهى وكانت رافضة خروجة مهددة اياه :” تندم ..وحياة عيوني تندم ” ، في هذه اللحظة كان الصيداوي يدوِّن هذا الحوار الدائر بينهما وتحول الى اغنية من كلماته و الحانه وغنتها المطربة وداد نفسها وكانت بحق اهم واشهر أغنياتها التي باتت تعرف بها رغم انها غنت من الحانه ايضاً عدة اغنيات خفيفة مثل ” لا قلبي ولا بعرفك ”، ” يا ناعم ” ، يسلملي الفهم ” و ” صبحتو وما رد ” ومن كلماته حصراً والحان توفيق الباشا غنت ” يا حبيب العين ضياء ” ، وعندما صعد الانسان على سطح القمر كتب ولحن أغنية ” يا طالعين ع القمر ” وكانت من نصيب المطرب وديع الصافي ، ومن كلماته والحانه شدت المطربة سميره توفيق ” هالله هالله يا قليبي ” والتي غنتها بفيلم ” بدوية في روما ” 1965 ، وغنت له أيضا ” ” طلوا الحبايب ” ،من الحانه غنى ايليا بيضا ” يا ويل اللي ما يخاف ربه ” ، صلاح تيزاني ” بنتك يا صاحب بنتك ” و ” ما حدا بيعرف شو بيصيبه .. من عدوه او حبيبه .. كل مين بياكل نصيبه ” .
ولحن لاخرين أمثال نور الهدى ومحمد مرعي ووداد محمد والمونولوجيست فريال كريم و فايزة احمد ,و من كلماته غنت المطربة صباح ” عينك مش مضبوطة كتير ” بالإضافة لأغنية ” قوللي ايوه قول ” والتي قدمتها بفيلم ” الحب كده ” “1961“ .
”وينك يا ليلى.. ”
مما سبق نستشرف ان سامي الصيداوي صاحب الفضل الكبير بالنهوض في الأغنية اللبنانية بعد ان ظلت بفترة الثلاثينات وما قبل محصورة بالأغنية الفلوكلورية وفي القالب التقليدي مثل العتابا و الميجانا والدلعونة ، الخطوة الأولى التي وضعها الصيداوي لترسيخ هوية الأغنية في بلاده عدم تأثر الأغنية اللبنانية بالأغنية المصرية التي أثبتت حضوراً كبيراً من خلال الأفلام الغنائية والاذاعة والاسطوانات والحفلات العامة ، لتحقيق ذلك اعتمد اللهجة اللبنانية المألوفة في ألحانه ، ومن الأمثلة على ذلك ان العديد من المطربين والمطربات اللبنانيات من الأصوات الأصيلة والذين كان من الممكن ان يخدموا الغناء في بلدهم اقاموا في مصر فترة من الوقت وكانت معظم اغانيهم التي قدموها هناك ومن خلال الأفلام الإستعراضية تحديدا كانت باللهجة المصرية ولم تحقق لأغلبهم النجاح المطلوب وعند رجوعهم للبنان عادوا وغنوا من الحان الصيداوي باللهجة اللبنانية ، ونذكر على سبيل المثال المطرب اللبناني محمد مرعي الذي عاش بمصر فترة من الوقت وشارك بفيلم ” اول غرام ” 1956 وغنى بالفيلم من الحان كمال الطويل ورغم جمال هذه الالحان التي قدمها الا انها لم تكن بمستوى اغنية ” وينك ياليلى ” التي لحنها له سامي الصيداوي بلهجة لبنانية وبرأي الكثيرين كانت واحدة من اجمل أغنياته .
« ميِّل يا غزيِّل ..»
في الوقت نفسه ركز الصيداوي على ابراز الأجواء الشعبية اللبنانية فيما يكتبه و يلحنه من اعمال ، ونلمس ذلك في أغنية « ميِّل يا غزيِّل « التي كتبها و لحنها بفترة الستينات لتغنيها وبلهجتها الأصلية أيضاً المطربة نجاح سلام العائدة من مصر وقتها لتعيدها هذه الأغنية الى الساحة الغنائية اللبنانية وبنجاح ساحق ،ويكمن سر شهرة « ميِّل يا غزيِّل» في الصورة الغنائية التي تأخذ المستمع للأجواء الشعبية و الريفية اللبنانية والتي وظفها الصيداوي وبذكاء بالغ من خلال ” التبولة وفنجان القهوة والعباة والشباك ..“ .
يحسب له أيضاً انه قدم الأغاني الساخرة والناقدة بأسلوب مهذب وراقي ولم يلجأ للألفاظ التي تخدش الحياء كما يحدث الان مما جعل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب يطلق عليه لقب ” بيرم التونسي اللبناني ” .
لم يحالفه الحظ بفرصة المشاركة بأعمال الأخوين رحباني على عكس رفيق دربه فيلمون الذي بدأ معه في الاربعينات وحقق رواجا من خلال الالحان التي قدمها وبصوت فيروز في مسرحيات الرحابنة ، ورغم انه شارك كملحن في مهرجانات بعلبك من خلال المسرحية الغنائية ” ارضنا الى الابد ” 1964 لفرقة الانوار مع صباح ووديع الصافي ، الا انها لم تلق النجاح الكافي ولم تساهم بإضافة اي شيء له كملحن نظرا لمشاركة عدد كبير من الملحنين في هذا العرض مثل توفيق الباشا و زكي ناصيف وعفيف رضوان وفيلمون وهبي ووليد غلمية .
عانى الصيداوي من عدم استيعاب النقاد والجمهورله في ان يكون فنانا شاملا وحصره البعض في انه شاعر فقط و اخرون اعتبروه ملحن حصراً ، وطرف ثالث اعتبره مغنياً ،اما الجمهور فكان يراه فنانا ساخراً وباختصار لم يتقبل هؤلاء فكرة الفنان الشامل التي اتصف بها .
توقف عطاء سامي الصيداوي بفترة الحرب اللبنانية اواسط السبعينات وأصيب بحالة اكتئاب وغادر على إثرها مدينة صيدا ليستقر في جونيه واعتزل الحياة الفنية لمدة طويلة دون ان يعرف أحد اخباره حتى جاء اعلان وفاته عام 1994 .
”سيجارة .. ”
ورد اعلان في الصحف اللبنانية ومنذ فترة أن احدى الجمعيات المناصرة للبيئة ستقوم بتنظيم مظاهرة من اجل منع بث الأغنية التي تسهم بشكل كبير في الحث على التدخين و شرب الاركيلة مما يتناقض مع التوجيهات و الإرشادات التي توجهها منظمة الصحة العالمية ، الأغنية المعنية كانت ل فارس كرم وتقول كلماتها ” ريتني تمباك معسل وتحرقيني بأركيلة ..ومهما عندك اتوسل .. عني الجمرة ما تشيلي ” ، يعكس ذلك مدى التحول في الأغنية اللبنانية على عكس زمن سامي الصيداوي الغيور على صحة ابناء بلده عندما غنى منذ زمن ومن الحانه محذراً من أضرار التدخين” بإيدو سيجارة وبتمو سيجارة .. ولا بيحمل قداحة .. ولا بيستعمل نارة .. والقحة بظهر القحة .. ولما تقلو كيف الصحة .. بيجاوب بالإشارة .. وبيشفط بالسيجارة !” .
السيجارة والتدخين في الاغنية العربية عموماً وردت بصور غنائية عديدة كمعادل الموضوعي للكثير من القضايا الأنسانية والفلسفية ، للهروب من هموم الحياة كانت السيجارة الملجأ لذلك في اغنية عبد الوهاب « الدنيا سيجارة و كاس .. للي هجروه الناس « ، وفي أغنية مشابهة من فيلم مليون جنيه 1953 غنى المطرب المغمور فهمي حسني ” يا دنيا رخصوكي الناس.. وعابو فيكي يا خسارة ..وقالوا دي سجارة وكاس .. وباعوكي بكاس وسجارة ” .
« فنجان شاي مع سيجارتين ..»
مطربون كثر روجوا أيضا للتدخين خاصة عندما تُشرب السيجارة وبمزاج مع فنجان القهوة وعلى طريقة صباح وهي توجه الدعوة لفتى الأحلام « مادام جيت على الحارة ..ما تشرفنا بزيارة ..ماراح بتكلفنا كتير ..فنجان قهوة و سيجارة « ، محمد الموجي وفي واحدة من الأغاني القليلة التي قدمها بصوته «يستحلي « السيجارة مع فنجان الشاي وبأجواء رومانسية « فنجان شاي مع سيجارتين .. مابين العصر والمغرب .. وبنظرة شوق ما بين قلبين ..مع السكر بتتقلب « ،ابو احمد وهو يدخن السيجارة لفت انتباه طروب وأخذت تتغنى به « ابو احمد خيَّال الحصان كتير فهمان.. احيان زعلان ومرات فرحان ..بيقعد ع القهوة وبيشرب سيجارة ..انسان كويس محبوب الحارة ..سلسال الدهي يلمع بإيده ..شبان البلد كلها بتريده ..عينه بناظرنا يجبر خاطرنا .. ابواحمد « .
أما عند حدوث «خناقة « او مشاجرة تكون السيجارة هي المهدِّيء للغضب وحسب رؤية رفيق السبيعي « ” إي خدلك سيجارة اقعد لنتفاهم .. مو حلوة نتعالق .. قدام العالم .. مو حلوة نتعالق ونورجي علينا العالم !” .
في اواسط الثمانينات و في برنامج « مرايا « عاد ياسر العظمة ليؤكد رأي سامي الصيداوي عن التدخين المدمِّر للصحة «يا مسبب السعلة ..ياللي همومك بالجملة ..بدي أقطفلك ورقة ..ووفر ع حالي العملة « .
« ارجيلة و نارة ..»
فريال كريم التي اشتهرت بالأغاني الناقدة والتي تعتبر امتداد لمدرسة سامي الصيداوي أيضاً تغنت في مسرحية « حلوة كتير « 1975بالمقهى الذي ارتبط بالتدخين عموما « قهوة قد السحارة ..فيها ملجأ للغارة ..في ارجيلة و في نارة .. وبتخضع للتفتيش «.
سيد درويش وعندما ارتبط التدخين بالمخدرات استشعر بالخطر الذي يداهم مصر وغنى محذراً» اقولك الحق.. يوم ما تلقى بلادنا طبِّت في أي زنقة ..يحرم علينا شربك يا جوزة ..روحي وانتي طالقة مالكيش عوزة ..دي مصر عايزة جماعة فايقين « ، أما عن « اللي مش فايقين « من جراء التعاطي هاهو محمود الحسيني يقدمهم وبالصورة التي انتهوا اليها :
” انا شارب سيجارة بني
حاسس ان دماغي بتكلِّن
قاعد بالحارة بسقَّط
والغسيل عمَّال بينقَّط
والشارع اللي ورايا قدامي
والكلام على طرف لساني
باجي اتكلم بتلخبط ..! ” .