يُقلق الفنانة التشكيلية الأكاديمية سامية الزرو أن أجيال الفنانين، الأردنيين تحديدا وربما العرب أيضا، لا تتجدد على النحو الصحي الطبيعي.فمن يجري تدريسهم في الجامعات أو من يفترض أنهم بدأوا المسيرة الفنية حسب الأصول، لا يلبثون أن يتشتتوا ما بين الهجرة والانشغال بالزواج.
ويقلقها أيضا بنفس القدر أن الساحة التشكيلية يعبث بها المهرجون، جاعلين من أنفسهم فنانين، مستسهلين تعبير «الديزاينر» الذي نزعوا منه أصالته المفترضة، وانتهكوه بالتقليد.
سامية الزرو من جيل يصحّ وصفه بأنه صنع نفسه.اكتسبت من بيئتها الأسرية المنطق العلمي التجريبي والانضباطية ونزعة الإبداع، وأثرت هذا الموروث بجهد شخصي أقام من فوق التأهيل الاكاديمي مسطحات فنية أفقية وعمودية فرضت نفسها لوحات وتماثيل ومنحوتات على المعارض الأممية المعتبرة من الفاتيكان إلى البيت الأبيض إلى أقصى شرق آسيا.
هذه الخلطة المشعّة بالبرمجة والتحدي والصدق، تزيّنها سامية الزرو بذاكرة متحرّقة تحتفظ بمشهد التماثل بين بلاط شوارع القدس وشوارع نابلس.وفي السياقات تجد لنفسها مكانا مستقلا على جوانب المآسي المتحركة في المنطقة.فهي مستقلّة بفكرها وانتمائها الذي يتجاوز الحزبيات ويافطات المزاودة الوطنية الصغيرة، لأنها ترى في نفسها ذاتا أكثر رحابة، وبألوان فنية حارّة قريبة من درجة الغليان الرائق.
تشعر سامية الزرو أن قدرتها الاستثنائية على اكتشاف المسطحات القابلة للتشكيل، تمنحها الميانة على إطلاق الأحكام السياسية السريعة، ما دام الفيصل في النهاية هو الصدق.ولذلك كان ملفتا تشخيصها للشوفينية المتوترة في بعض الأعمال الفنية للفلسطينيين بأنها جزء من ظاهرة أوسع تتمثل في أن من استلموا الزمام الفلسطيني حتى الآن مستوردون وليسوا فلسطينيين بالعمق.طريفة ومثيرة للجدل هذه الرؤية، ومثلها الكثير مما لدى الزرو وتجهر به.
عاشت سامية الزرو حياتها في البحث والتجريب بالايحاءات التي تلقيها عليها الأمكنة والعلاقات المحيطة بها.اين وصلت بهذه الرحلة متعددة المحطات والمفارق؟
أهم شيء هو كيف يبدأ الشخص المسيرة.
أحب أن أثبت نظرية أن الفكر العلمي والفكر الأدبي يتفقان.خلفيتي كانت تحضيري طب، وبعدها قررت بأنه لا يوجد بعثة.كنا خمسة، جاءتني بعثة مشروطة بدراسة الفنون الجميلة، ووافقت.عاملت الفنون الجميلة كعلم، وليس كالمألوف لدينا بان من يدرس الفنون الجميلة لا يكون ناجحاً في أي شيء.
هي عملية فكرية جداً تحتاج إلى عقل مفكر مبدع وفيها عمق شاعري وعمق أدبي وتتناول كل النواحي.من يقول بأن الذي يقوم بعمل لوحة فانه فقط يتناول سطح اللوحة، أجيب عليه وأقول: لا فاللوحة لها أهمية ولها خلفية من الناحية الأخرى، وهذه الخلفية هي التي تغذي الفكر، فأي عمل لا يوجد به فكر لا يدوم.
إذا عدنا للماضي نجد ان العلماء كانوا الفنانين في العالم مثل مايكل أنجلو.لم يكن أحد منهم سطحيا، ولعمق علمهم أسسوا مدارس، ولدي أصدقاء كثيرون منهم علميون ومنهم التجأوا للفن فقط لأنه لا يوجد مجال آخر يقبلهم.وهناك مهرجون يتناولون الساحة ويصبحون فنانين، لأن عملية الفن ليست لوحة كما ذكرت.إذا كان الشخص لا يستطيع أن يخطط، والتخطيط يحتاج إلى تفكير، والتفكير يؤدي إلى (سكتش) والسكتش يؤدي إلى علم.
الإنسان العادي يمكن ان يرسم إنسانا أو نباتا، لكن الفنان يستوعبها ويخرجها في إطار ثان وهو إطار فني.أكيد نحن لا نتخطى الطبيعة، كوننا نقلد وجودنا في عالم كله جمال.لا أقول بأنني أزيد على الطبيعة، ولكن أزيد عمق معينا من داخلي وانفعالاتي ومشاعري والمؤثرات حولي.هذه أزيدها على العمل حتى يخوض المشاهد جولة معي داخل العمل ويخرج نوعاً ما بفكر آخر.هي جولة.العمل الفني ليس سطحا، لكنه خبرة وتجربة ومعاناة وفرح واشتياق، كلها تترجم في عمل واحد.إذا كان لعمل محكي أكثر من بعد أو لوحة فإن الفنان يجب أن يشمل أي شيء، النحت له خامات والتلوين له خامات لكن الفكر واسع وليس له حدود.
إلي أي حد تقتربين أو تبتعدين عن الاعتبارات الجندرية أو الجنسوية في تفكيرك وأعمالك؟
رحلة الفن لها بداية لكن ليس لها نهاية، ما دام لدى الشخص مقدرة أن يقوم بها فليكمل المسيرة.هي مسيرة، وأنا ركزت في هذه المسيرة وحاولت أن أخلق تلاميذ لكن لم أنجح كثيراً، مع أنني علمت في أماكن مختلفة.من نقوم بتدريسهم يغادرون ولا أعلم أين يذهبون.
في قسم الفنون في الجامعة الأردنية وقبلها في جامعة البتراء نفتش عليهم ولا نجدهم، فإما أن يستوعبهم الخليج أو أن يتزوجوا.لا نجد التزاما.الفن التزام نوعاً ما لأنه بصري وحسي وشمولي أكثر من أي شيء آخر.الكتاب مثلاً يُقرأ لكن لا يوجد خلف الغلاف إلا رأي القارئ والكاتب، أما اللوحة فلها أبعاد تخترق ومتعددة نجدها أينما كان.إذا تحركت ورقة الشجر فإن فيها فن، وإذا السنبلة تحركت وانحنت فإن بها فن.هذه الأمور المتعددة الأبعاد والتي هي من جمال الطبيعة ليس لها حدود.وكذلك الصوت أيضاً.صوت الشتاء وصوت الهواء وصوت الربيع ورائحته .فالفنان يعيش بأجمل وأعمق عمل فني في العالم.
والأكثر ابداعا الفنان أم الفنانة؟
لا يوجد بالفن أنثى وذكر.الفن هو فن، والفنان فنان لا هو مؤنث ولا مذكر.
الفن مجال تعبير لا يعطي مساحة للتفرقة الجندرية.
أنا أعمل حدادة وفي التلحيم والسكب وفي الرسم والتصميم وتعليم التصاميم للتطريز.أقمت مؤسسات ومركز الأيدي الذي استوحيته من اليد التي تعمل .جمعت كل الحرفيين الذين بتقديري جهدهم فني حرفي ولا يحتاجون إلى فن ليصبحوا حرفيين.لكن الفن هو فن وبعدها الفنان يحترف الفن.
الناس أصبحوا يتسلقون على الحرف والحرفيين. كل واحد يقول بأنه أصبح مصمما مع أن الحرفي البدائي هو مصمم.بالنسبة لي فانني لم أحصل على شهادة مصممة الا بعد سنوات.ليس بعد التوجيهي أصبحت مصممة، فالتصميم علم وحرفة بحد ذاتها مثل الطب ، حرفة كاملة متكاملة،.
في بدايات حياتك الفنية هل استسهلت التقليد أو الانخراط في مدرسة او تيار يبرر لك الاقتباس والتوليف؟
ج: الفنان الحر لا يقتبس.يقتبس تقنية، والتقنية تصنعها شركات.فأنا آخذ تقنية استعمال دهان الزيت من شركة دهان الزيت، وتقنية الأقلام من شركة الأقلام.التقنيات لا تُعلّم، كلها تجارب.
أيضاً التصميم ليس أن تنقل شيئا عن شيء.عملية التصميم ليست تقليدا للخالق لكنه خلق مما يتم استيعابه من حولنا ونخلقيه في إطار ثان.هذا يسمى تصميما (ديزاين)، ولذلك نرى الآن (ديزاينر) في كل مكان، هؤلاء يستعملون أدوات التصميم ويخولوا حرفيين لعملها.
أحياناً أتساءل لماذا الفنانين القديرين في هذه المنطقة ليسوا كثرا.من جيلنا كانت هناك مجموعة جيدة، و في الجيل الذي بعدنا انخفض العدد، والجيل الذي علمناه لا نجدهم.فكيف اذن يولد ديزاينر جدد؟! نحن نولد معماريين ومن كلية الطب ومن كلية التربية وهؤلاء نقوم بإعطائهم دروسا وحصصا.هناك فن للتعليم، وفن للعلوم و للمعمار، لكن أرى الآن أن كلمة مصمم أو ديزاينر أصبحت مبتذلة.بحثت في المجهر عن حرفيين ، من الكرك إلى اربد إلى الحصن حتى أجد الحرفي الحقيقي.الأردن ليس بلدا حرفيا بالأصل فمعظمهم جاء من سوريا.لكن هناك بعض الحرف الاردنية مثل المهباش حيث الحفر بيد البدوي، والغربال حرفة.
عدم تفهم أبعاد و معنى الحرفة والتصميم خلق بها تشويشا.صديقتي وداد إيراني قعوار هي شمعة التراث، لا تدعي التصميم مع أنها قامت بدعم المسيرات وأنا تعلمت منها وهي تعلمت مني.المصمم يمسك قلما ويقوم بعمل سكيتش، وبعمل الديزاين.هذا الامر بحاجة إلى توضيح حتى لا يدعي أي شخص أنه مصمم.
استراحة
نابلس في ذاكرتي أقرب إلى القدس، بشوارعها القديمة
ما معنى الزرو؟ كإسم لعائلتك
الكلمة مقتبسة ولا أتصور أنها عربية ولا أعرف ما هي جذورها.بالتركي معناها شخص قصير القامة، لكن كيف كان تحويرها للعائلة؟ لا أعلم.
الزرو حامولة (عشيرة او عائلة كبيرة) اسمها الحددة. كانوا متواجدين ما بين رام الله ومادبا، حيث لم يكن هناك حدود، والمسيحيون الذين تجمعوا اسمهم الحددة، ممكن أنهم كانوا حدادين، وانقسموا فأصبح هؤلاء حدادين والآخرون زرو. ميخائيل وعوده الزرو، جميعهم حدده.
ماذا يعلق في ذهنك من نابلس الطفولة في اربعينيات او خمسينيات القرن الماضي.
لأن والدي ونحن صغار كان مفتش صيدليات في عموم فلسطين والأردن، لذلك كان لنا المجال بأن نزور كل المنطقة، طولكرم وجنين وبيت لحم والقدس وعمان. كان في عمان صيدلية شقير بجانب الصالون الأخضر، وهو صديق لوالدي. كانوا يقولون عنا أولاد الصيدلي، كنا خمسة، كانوا في ذلك الزمان ولغاية الآن يشعرون بأن الصيدلي دكتور، فكانوا يطلبون منه وصف الدواء، تعودنا على ذلك.
طفولتي في نابلس كانت ما بين المدرسة الإنجيلية الى رام الله حتى عام .1948 دخلنا مدرسة (الفرندس) عام 1949.وبعد أن حصل حادث مع أخي الكبير حيث دهسته سيارة عراقية عام 1948 غادرنا مع والدي وفتح صيدلية في رام الله، فأدخلنا بداية في مدرسة بيرزيت وبعدها في رام الله.
وما الفرق بين نابلس ورام الله في ذاكرة وذكريات سامية الزرو؟
نابلس في ذاكرتي أقرب إلى القدس، وهذه النقطة لا أحد يثيرها.شوارع القدس القديمة التي يتغنون بها هي شبيهة تماما بشوارع نابلس القديمة ، لا يوجد فرق أبداً.
ذاكرتي عن نابلس عميقة جداً لأن كل أصحاب والدي من نابلس، عبدالهادي وطوقان والشكعة ودار الخوري وبشناق، وهم روس ويوغسلاف جاءوا الى نابلس من زمن بعيد وتزوجوا من نابلسيات.أتذكر كل شيء في نابلس ..بلد جميلة وعريقة والجوامع بها جميلة، وفيها أحواش كبيرة جداً ولكل عائلة حوش.