عالم برزخي

عالم برزخي

 نفض اكوام الغبار عن كتفيه. تنهد بعمق وجلس بجانب قبره. الصمت مطبق، انفاس الموت تتردد في كل مكان، عشرات القبور مصفوفة بجانب بعضها بعضا تمتد على مدى بصره الى ما لا نهاية. (خمس سنوات مضت من عمري البرزخي - يا الله - كنا نشكو في الدنيا سرعة مرور الأيام، وها نحن الآن نشكو من بطئها. اليوم بالضبط يمضي عليّ خمسة اعوام في برزخي هذا، هل سأحتفل بذلك كما كنت في الدنيا؟!، هه، احتفل بعيد موتي الخامس!!، يا للسخرية! كم اشعر بالوحدة رغم عشرات المجاورين لي. وحدة مطبقة. صمت رهيب، ظلام على ظلام، موت متراكم فوق بعضه بعضا يا الهي!).
سوى من جلسته، ثم خطر له ان ينادي على جاره الراقد بقربه، عله يؤانسه في ليله البرزخي هذا.
- محمود.. محمود.. يا محمود.
خرج محمود من لحده بتثاقل وتململ وهو يزيح اكداس التراب والأغبرة عن جسمه وكتفيه.
- ماذا تريد؟ لقد افزعتني يا أخي!
- كنت بحاجة الى من يؤانسني، فلم اجد غير جاري الاقرب والاقدم، فهل تبخل علي بذلك؟!
- كما تريد، والآن ما بك؟
 رفع بصره الى السماء وقال كمن يخاطب نفسه:
«آه يا صاح، كم هذه الحياة غريبة»، ثم ضحك وقال: «اقصد هذه الحياة البرزخية، لم اكن اتوقع - وانا في الدنيا - انها هكذا! لو كنت أعلم ذلك لأعددت عدتي على خير وجه دون ان اتورط في هذه الوحدة وذلك الملل!».
رنا اليه صاحبه وقال:
- النظر الى الخلف عبث لا طائل منه.. لا تسترجع زمنا انقرض بموتنا.. واضبط ساعتك على زمن الآخرة الذي ولد فور موتنا.
نظر الى آفاق المقبرة السحيقة المعتمة وقال:
- صف لي شعورك في أول يوم وضعت به في لحدك؟
- تنهد محمود وقال:
ايه يا صاحبي، لقد عدت بي عشرين عاما الى الوراء.. يا له من يوم.. كان يوم ولادة حقيقية لي.. نعم يوم ولادة.. على عكس ما يعتقد الناس. كان اول يوم في حياة جديدة لي.. حياة تتجلى فيها الحقائق واضحة لا لبس فيها، كل الحقائق تفصح عن ذاتها فيه. لكن ما الفائدة.. لا تستطيع ان تعمل شيئا ولا ان تغير من شيء (ثم وهو يلتفت الى صاحبه).. لكن ما الذي دفعك الى هذا السؤال؟
- هه؟، لا شيء.. لكن اتذكر ذلك الطفل الذي دفن يوم امس على بعد امتار منا.. آه.. لكم حسدته.. عاش دنياه مرتاحا خالي البال، وسيرتاح هنا في برزخه.. اما نحن.. آمنا نحن..
- ما فائدة الكلام يا صاحبي، سنبقى هكذا الى ان يشاء الله.
قبض على حفنة من تراب وفتتها بين يديه ثم قال:
- لي رغبة بان اتخطى حدود هذه المقبرة، لقد مللت منها، مللت من هذا الموت المكرر اللانهائي.. سأتخطاها.. نعم.. والآن..
حدق فيه جاره وقال:
- لا تتعب نفسك، قد حاول الكثير غيرك ذلك، لكن دون جدوى.. فلهذه المقبرة جاذبية غريبة، لا يستطيع أحد كائنا من كان بأن يتخطاها.. جاذبية تشد من يحاول الفرار منها الى قعر بطنها، خذ بنصيحتي، فأنا أكبر منك سنا، لأني الأقدم، أنت لم تزل في سنك الخامسة من حياتك البرزخية.
- سني الخامسة! اي لم ابلغ سن الرشد بعد! يا لها من حياة غريبة.. من كان يدري!.. كنا نقول (عشنا وشفنا). والآن نقول (متنا وشفنا)!!
ضحك بمرارة ثم أكمل: شكرا لنصائحك. لكن يجب ان احاول.. يجب.
نهض بصعوبة كأنما يقاوم شيئا ما يشده الى الأرض. مشى مترنحا وهو يقتلع رجليه من الأرض اقتلاعا. اوغل في المسير حتى شارف حدود المقبرة. هبّ بأن يجتازها مندفعا بكل قوته المتداعية.. لكن ما ان ابتعد عنها امتارا حتى شد اليها بعنف ملقى على ظهره.. فحاول مرة اخرى، ولكنه اعيد الى مكانه بعنف اكبر.. وبقي على حاله هذا.. عاما.. بعد عام.. بعد عام.
القصة الحاصلة على المركز الاول في مسابقة الابداع الشبابي، وزارة الثقافة، 2004.