لطفية الدليمي
حين انشطر طريقنا مثل لسان افعى،
ناديتك: أين أنت يا وطني؟ وكنت تبدأني فألدك كل ليل وعشق، فما وجدتك بعد هذا الا طفلا ينتحب بين حطام الأمل.. فأين انت الآن يا وطني؟
هم؟ اعرف، فلا احد بريء من دمك، هم بددوك في هرج الاناشيد والمشانق والمحارق، فسكتت العنادل، وهاجرت الحمائم في تاريخ القتل، واستحمت الشحارير في غاز السارين وما لبثت قيثارات «أور» ان انتحرت على عتباتك، وتحطمت المزامير وباحت نايات القصب بفضيحة الاسكندر.
رأيتهم ينفونك الى الليل، فما بزغ من بعدك فجر، ولا ولد لنا مصير، عندما ضيعوك في جنون السلابين واعلنوك على هزر الشاشات واقاويل الشماتة، وتبدد ميراثك بين فلول الغابرين وشهوات الآتين الى وليمة القسمة.
فأين انت الآن يا وطني؟
بحثت عنك في الواح القدر وركضت في قصائد الخليقة، وتقلدت مراثي اور الحزينة، وتبعت حدوس فؤادي، فما عثرت على ضريح يتسع لفواجعك، فأين ذهبت يا وطني؟
تطعنني البيانات المنطوقة بلكنة القذائف وتلك المرتلة على حد السيف، فكلتاهما تنهشان بلاغة الملاحم وتزدريان نصوص الحكمة وأناشيد العشق السومرية، لذا اقوم بفجيعتي الى بلبلة اللغات في لجة القتل، لأتحرى مقاماتك، بينما قراء المقامات يرتلون مراثينا في مقام الحجاز ويستعيرون اوجاعنا وجنائزنا للملحنات الحزينة، ثم يسألونني عنك:
- أما رأيته يتعالى في مقام الصبا؟
أما سمعته يتسامى في ترانيم الاسى؟
وأعدو لاقتفي ايقاعك الشجي في مسافات الرمل وشطآن النخل، فلا اراك، واصرخ في لوعة الفقد:
اين أنت يا وطني؟
كل صباح، عندما تهدر دبابات (المارينز) امام بيتي، تموت شجيرات الياسمين وتذوي زهور عباد الشمس وتنزف دمها الاصفر فوق الزمن، وما ان يمرق ظل (الاباتشي) فوق نوافذي حتى ينسدل الرعب على الهواء ويهتز النخل منتفضا وانا اسائل الزنبق الراعش والغرانيق المحتضرة، اسائل الاقحوان الذهبي وطائر الطيطوى حامل النذر، اسألهم ان يرشدوني اليك لأقطف وردة صوتك في السهول، فيخادعني العبير، وتخذلني اللغات ويراوغني الذين يبيعونني الكثبان في الليلة العاصفة، وتخذلني القصائد التي تندب الجمال المهدور ويخرسها الغيظ لدى مرور الدبابات وهي تصوب ماسورات مدافعها نحو رؤوسنا..
ثم اراك، اهذا أنت؟
تلوح لي في الغسق وعلى مفرقك تاج من جماجم ابنائي، وعباءتك حلم مضرج بانفاسهم الغاربة، وفي عنقك قلادة من اصابع البنات المغدورات، والاشباح تضفر جدائلك النخلية بالاشعاع والرزايا.
وانكرك.. اهذا انت يا وطني؟
بحثت عنك في رعشة المواعيد وحشرجة العصور، ورأيتهم يعلقون اشلاءك على المحاريب والمنابر، ويتقاذفون افلاذك الدامية بين الصحف واوراق البيع وعقود الصفقات، ورأيت الاحزاب تعلقك ايقونة براءة على الشرفات المحروقة ومداخل الازقة المستباحة، ورأيت الجلادين يحفرون اسمك على المعاول ويواصلون تأثيث المقابر بابنائك المغدورين كل فاجعة وويل.
فصرخت في الطرقات: اين انت يا وطني؟
بوجهك البابلي، وسموا السبائك المنهوبة وحلي المخطيات واعناق المشنوقين، ورأيتهم يسملون عينيك القمريتين ويلقون اعضاءك المبتورة في ملتقى متاهات العرب، فكيف سأجمع اشلاءك المنثورة في البلاد، ومتى اقطف تفاحة الرغبات من شفتيك؟ وكيف ستنهض في ربيع قيامتك يا تموز وتبث خصبك في التقاويم الموات؟
بحثت عنك في الاصوات الجهيرة وهمس الظنون، فداهمتني المارشات الجنائزية، وصرعتني ضربات الطبول وتناوبتني ابواق القبائل وصنوج الدراويش وسلاسل النادبين، وهتفت باسمك:
- اين انت؟ واين كنت؟ واين تمضي بك الأهوال يا وطني؟
بحثت عنك في الاسماء ذات الرنين والاسماء المصمتة البكماء والاسماء المظلمة والاسماء الغبارية والاسماء البحرية وكنايات الرمل وعلامات الصحراء.
بحثت عنك في اسماء المدن المصلوبة، وبحثت في الساعات التي انتزعوا قلوبها وباعوا مواقيتها في ساحات المزاد، نقبت في ركام الازمنة، فما وجدت تقاويمك، انما رأيتك تنهض في الاعصار وتحملك الريح على اجنحة اللهب لتحصي الارامل المسمرات لدى الابواب، وانت تحمل سفر الموتى على منكبيك وتمضي في الغروب، فكيف سأجدك يا حبيبي واين سألقاك يا وطني؟
بحثت عنك في الميادين المرمدة ووجدتك تعدد غصص نسائك الوحيدات وتحنو على جثامين البنات المغتصبات وترنم نحيب البنات السبيات المعروضات في سوق النخاسة وراء (نصب الحرية) في ساحة (الباب الشرقي) وسمعتهن ينادينك.. من وراء الحراب المغروسة في الخواصر:
- يا عراق البدايات.. اغثنا يا عراق.
مثلهن هرعت الى غوثك، جنون عند ظلالك وانتحبت، فانسدل عليّ أنينك مثل كفن، ومددت يدي لألمس جبينك فلم اجدك..
فأين ذهبوا بك؟
واين انت يا وطني؟
وقفت اتفرس بالوجوه الذاهلة وسط الجحيم المموه بالكولا والهيروين، وناديت، فما اكترث بندائي احد، وسمعتهم يرطنون بكلمات من دم وحشيش وهم يقرعون اجراس الوليمة، ناديت، فانكرني الذاهلون، استغرقني النشيج وغشيتني الظلمات، فما رأيتك بعد في موجة او سراب، فأين ذهبوا بك يا وطني، واين سأجدك يا حبيبي؟
بحثت عنك في سحنات الجنود الهاربين من المحرقة وجمعت قمصانهم المنقوعة في المهانة وعلقت نياشين التنك على صدر المهزلة، ثم رأيت الجنود القانطين العراة وقد اعاروا وجوههم لباعة النسيان واصطفوا على الطرقات يتسولون كسرة مستقبل ويمضغون اصابعهم واوسمة النصر ولمحتك تتوارى في شهقاتهم وهم يلوذون من يأس - بتعاويذ واضرحة وشفعاء، ثم رأيت (عشتار) المحبات تسبغ عليك مجد الوهيتها، فتتوهج البلاد بحرائقك واتقدم لاقتحام الرؤيا واعدو خلف ضوئك فلا يغمرني سوى الرماد ولا امسك الا بأنين (دجلة) وعويل (الفرات).
بحثت عنك في الاسواق فوجدت صورتك مطرزة على اردية الحداد وثياب السبايا، فتشت عن رائحتك بين براثن الكارثة وثكل الامهات اللواتي كاثرهن الرعاة المهزومون والغزاة المرتبكون ولحق بي مروجو الاحلام السعيدة وهم يحتسون دم البلاد في مهرجان الصفقات ويتبادلون الصلاة عند جنازة التاريخ او يرقصون في حومة الضحايا، ابطال من قش تناثروا في العصف، ومخلصون يعدونك بحروب سعيدة مؤبدة ويهيئون لك نعوشا من حرير الاكاذيب، ونياشين من الطعنات، ويتحامون باطيافك، ثم يندسون فيما تبقى من جوارحك مثل ذباب الموت الازرق.
وانا اصرخ في البراري: اين انت يا وطني؟
بحثت عنك في مفارق الوحشة والتقاويم، فتعثرت بالاشلاء والتوابيت والرايات المدماة وطواطم القبائل المستفيقة من كهوفها، ورأيتك ترتعش جريحا وقد صلوبك على راية (اور) وبين يديك حمامة مذبوحة، وبغتة حجبتك السحب وغيبك الدخان، وما رأيتك بعد هذا السواد، فصرخت بك:
أين انت يا وطني؟
بحثت عنك على (جسر الشهداء) فما وجدتك بينهم، انحنيت على دجلة، وتسللت الى ابهاء الغرقى وهم يحتفلون بولادات الموج، ناشدتهم ان يتبعوك في موجة عذراء ويأتوا بك الي ضحكوا مني، وغادروني متوغلين الى امان الموت وهم يشيرون الي ويحدقون بنظرتي، وعندما اضاء وجهك برق، تطلعت الى مرآة البدء، فرأيتك تعوم في ادمعي وتومىء لي بالتحايا، وتفصح عن صفاتك في صفاتي، عندئذ اطبقت عيني على بهائك، وحبستك ما بين حدقتي وانعكاس السماء، واحببت ساعتها المرايا، ومجدت ساعتها البكاء.